رَحَلْتُ.. ورَأيْتُ.. اَلسّودانُ أو الشَّمْسُ السّاطِعَةُ.. بقلم: العربي بنجلون

رَحَلْتُ.. ورَأيْتُ.. اَلسّودانُ أو الشَّمْسُ السّاطِعَةُ.. بقلم: العربي بنجلون

رسم: رضوان الرياحي

اَلْعاصِفَةُ قَوِيَّةٌ، والْبَرْدُ قارِسٌ، والسَّماءُ غاضِبَةٌ، عابِسَةُ الْوَجْهِ، ونَحْنُ الأطْفالَ نَلْعَبُ، نَجْري، نَقْفِزُ في سُرورٍ وحُبورٍ، لا نُبالِي تَماماً بِالْجَوِّ الْمُكْفَهِرِّ.

فَجْأةً، أوْمَضَ الْبَرْقُ، ودَوّى الرَّعْدُ، والسَّماءُ فَتَحَتْ فَمَها لِتَرْشُقَنا بِمَطَرِها الْغَزيرِ، وثَلْجِها الْكَثيرِ.

تَوَجَّسْنا خيفَةً (خفنا)، فَتَرَكْنا اللَّعِبَ والْجَرْيَ والْقَفْزَ، وهَرَعْنا بِكُلِّ ما نَمْلِكُ مِنْ جُهْدٍ، نَبْحَثُ عَنْ سَقيفَةٍ نَحْتَمي بِها: ماذا نَقْصِدُ؟..وأيْنَ نَخْتَبِئُ؟..لا مَنْزِلَ، ولا عِمارَةَ، ولامَلاذَ يَقينا الْمَطَرَ الَّذي يُبَلِّلُ رُؤوسَنا ومَلابِسَنا!

وبَيْنَما نَحْنُ كَذَلِكَ، إذْ بِشَجَرَةٍ ضَخْمَةٍ، تَبْدو لَنا مِنْ بَعيدٍ، فَصِحْنا بِأعْلى أصْواتِنا فَرِحينَ :

- إلى الشَّجَرَةِ الْمورِقَةِ، يَا أَصْدِقاءُ!

لَجَأْنا إلَيْها لاهِثينَ، فَاحْتَضَنَتْنا جَميعاً كَأُمٍّ حَنونٍ، وأحْسَسْنا بِعَطْفِها عَلَيْنا، وحُبِّها لَنا، لَكِنَّ قَطَراتِ الْمَطَرِ كانَتْ تَتَسَلَّلُ مِنْ بَيْنِ الأوْراقِ والأغْصانِ، فَتَسْقُطُ فَوْقَ رُؤوسِنا. والْبَرْدُ، هُوَ الآخَرُ، كانَ يُباغِتُنا، بَيْنَ الْحينِ والْحينِ، بِلَسَعاتِهِ!

في تِلْكَ اللَّحْظَةِ، سَمِعْنا صَوْتاً يَأْتينا مِنْ أعْلى الشَّجَرَةِ، فَظَنَنّا راعِياً أوْ حَطّاباً، أوْ طِفْلاً مُخْتَبِئاً، غَيْرَ أنَّنا تَفاجَأْنا بِنَسْرٍ، يُطِلُّ عَلَيْنا بِرَأْسِهِ، ويُدَلِّي مِنْقارَهُ، فَخافَ أصْدِقائي مِنْهُ، وأطْلَقوا أرْجُلَهُمْ لِلريحِ، بَيْنَما بَقيتُ أنا مُتَسَمِّراً في مَكانِي، لا أتَحَرَّكُ قَيْدَ أُنْمُلَةٍ:

- لِماذا لَمْ تَهْرُبْ مِثْلَ أصْدِقائِكَ ؟..ألا تَخْشانِي؟

سَألَني مُتَعَجِّباً، فَأجَبْتُهُ بِشَجاعَةٍ:

- ولِماذا أخْشاكَ، أيُّها النَّسْرُ الْعَظيمُ؟..هَلْ فَعَلْتُ ما يُقْلِقُكَ ويُزْعِجُكَ؟

- لا، يابُنَيَّ، لَقَدْ شاهَدْتُكَ مِراراً، وأنا طائِرٌ في السَّماء، تَلْعَبُ مَعَ أصْدِقائِكَ، ولا تَعْتَدي عَلَيْهِمْ، ولا عَلى الْحَيَواناتِ والطُّيورِ والنَّباتاتِ، ولِهَذا أرَدْتُ أنْ أُكافِئَكَ عَلى أخْلاقِكَ الطَّيِّبَةِ..

قاطَعْتُهُ مُبْتَسِماً:

- وماذا لَدَيْكَ لِتُكافِئَني بِهِ، وأنْتَ لَسْتَ إلاّ طائراً، تَعيشُ في الْخَلاءِ الْموحِشِ، لا تَمْلِكُ بَيْتاً، ولا أثاثاً، ولا مالاً..؟

رَدَّ ضاحِكاً:

- لَدَيَّ الْكَثيرُ الْكَثيرُ، مَثَلاً، هَلْ تُريدُ أنْ أُخَلِّصَكَ مِنْ هَذا الْمَطَرِ الْغَزيرِالَّذي يُحاصِرُكَ، والْبَرْدِ الْقارِسِ الَّذي يَلْسَعُكَ؟

أجَبْتُهُ ناصِحاً:

- لا تَمْزَحْ مَعي، ولا تَعِدْني بِما لا تَسْتَطيعُ فِعْلَهُ!

وسَكَتُّ هُنَيْهَةً (لحظة)، كَأنَّني أسْتَعيدُ نَفَسي، قَبْلَ أنْ أسْألَهُ:

- ألا قُلْ لي، إذا كُنْتَ صادِقاً: كَيْفَ تُنْقِذُني مِنْ هَذا الْجَوِّ الْمُمْطِرِ الْبارِدِ؟

-حَسَناً، سَأحْمِلُكَ إلى بَلَدٍ عَرَبِيٍّ، شَمْسُهُ ساطِعَةٌ وطَقْسُهُ دافِئٌ، يُنْعِشُ نَفْسَكَ، ويُغْريها بِقَضاءِ فَصْلِ الشِّتاءِ هُناكَ!

عُدْتُ لأَسْألَهُ مُسْتَغْرِباً:

- ماذا تَقولُ؟..أمازِلْتَ تَتَمادى في مُزاحِكَ ؟..يَبْدو أنَّكَ تَقْرَأ الْقِصَصَ الْخَيالِيَّةَ!

بَسَطَ جَناحَيْهِ كَطائرَةٍ ضَخْمَةٍ، ونَزَلَ بَيْنَ قَدَمَيَّ:

-اِصْعَدْ لِتَتَأكَّدَ مِنْ كَلامي، فَأنا لا أقْرَأُ الْقِصَصَ الْخَيالِيَّةَ، كَما يُهَيَّأُ لَكَ.

حَنى ظَهْرَهُ قَليلاً، فَقَفَزْتُ فَوْقَهُ، وقَلْبي يَخْفُقُ يَخْفُقُ. ثُمَّ حَلَّقَ بي في السَّماءِ الْعالِيَةِ، وهُوَ يَقولُ لي:

- اِطْمَئِنَّ، ياوَلَدي، سَتُشاهِدُ بِعَيْنَيْكَ دَوْلَةً عَظيمَةً، مِساحَتُها مَلْيونُ ميلٍ مُرَبَّعٍ، أيْ ثُلُثُ مِساحَةِ أوربا، وتَزيدُ مَرَّتَيْنِ ونِصْفَ مَرَّةٍ عَنْ مِساحَةِ مِصْرَ، وأكْبَرُ بَلَدٍ إفْريقِيٍّ. لَوْ عَنَيْنا بِأرْضِها الْخِصْبَةِ، لَما بَقِيَ جائعٌ، لا في الْعالَمِ الْعَرَبِيِّ، ولا في إفْريقْيا كُلِّها.

خَفَضْتُ بَصَري، فَرَأيْتُ أرْضا كَبيرَةً، يَمُرُّ بِها نَهْرُ النِّيلِ، قاطِعاً مَسافَةَ ألْفَيْ ميلٍ، والسُّهولُ الَّتي يَسْقيها تَحُفُّهُ جَنوباً وشَمالاً، فيما تَنْتَشِرُ الْجِبالُ شَرْقاً وغَرْباً وجَنوباً.

وهُنا صِحْتُ في النَّسْرِ:

- أنْزِلْني مِنْ فَضْلِكَ، لَقَدْ عَرَفْتُها، عَرَفْتُها!

- ماذا عَرَفْتَ، ياهَذا الْوَلَدُ؟..هَلْ تَحْمِلُ في رَأْسِكَ خَريطَةَ الْعالَمِ؟!

- تَحْمِلُني إلى (السّودانِ) ألَيْسَ كَذَلِكَ؟

نَزَلَ بي قائلاً:

- أجَلْ، بُنَيَّ، إنَّها دَوْلَةُ السّودانِ، الَّتي تَحُدُّها مِصْرُ شَمالاً، والْبَحْرُ الأحْمَرُ وإثْيوبْيا شَرْقاً، وكينْيا وأوغنْدا والْكونْغو وزائيرُ جَنوباً، وإفْريقْيا الْوُسْطى وتْشادُ وليبْيا غَرْباً.

ولَوَّحَ لي بِجَناحَيْهِ مُوَدِّعاً:

- أتَمَنّى لَكَ رِحْلَةً جَميلَةً، ومَتى تُرِدْني صَفِّرْ، فَأحْضُرَ فوراً، لأُعيدَكَ إلى بَلَدِكَ.

- شُكْراً جَزيلاً، أيُّها النَّسْرُ النَّبيلُ!

وما كِدْتُ أخْطو خُطْوَتي الأولى في هَذِهِ الأرْضِ الطَّيِّبَةِ، حَتّى دَنا مِنّي طِفْلٌ في سِنّي تَقْريباً، يَنْظُرُ إلَيَّ في دَهْشَةٍ:

- أنْتَ مِنَ (الْبيضانِ)!

- وأنْتَ مِنَ (السّودانِ)!

- ماسْمُكَ ؟

- أحْمَدُ، وأنْتَ؟

- أحْمَدُ!

عانَقْتُهُ عِناقاً حاراًّ:

- يالَلصُّدْفَةِ الْحَسَنَةِ، نَحْنُ أخَوانِ، سَواءً كُنّا مِنَ الْبيضانِ أوِ السّودانِ، واسْمانا مَعاً مُتَطابِقانِ!

- مِنْ أيْنَ أتَيْتَ؟

- مِنْ بَلَدٍ شَديدِ الْبَرْدِ والْمَطَرِ، لا تَشْرُقُ فيهِ الشَّمْسُ إلاّ صَيْفاً، ولِهَذا تَراني أبْيَضَ.

- وأنا مِنْ هَذِه الْمِنْطَقَةِ الَّتي أغلبية سُكّانِها سُمْرُ الْبَشْرَةِ. يَقولُ عَنّا الْعالِمُ الْعَرَبِيُّ الإدْريسِيُّ :

- «وهَذِهِ الْبِلادُ كَثيرَةُ الْحَرِّ، حامِيةٌ جِداًّ، ولِذَلِكَ أهْلُ هَذا الإقْليمِ لِشِدَّةِ الْحَرِّ وإحْراقِ الشَّمْسِ لَهُمْ، كانَتْ ألْوانُهُمْ سَوْداءَ». يَظْهَرُ لي أنَّكَ تُريدُ أنْ تَسْتَمْتِعَ بِشَمْسِنا الْمُشْرِقَةِ!

- أصَبْتَ، يَا أخي، فَلَوْ لَمْ تَرْتَعِدْ فَرائِصي مِنَ الْبَرْدِ الْقارِسِ، لَما حَمَلَني النَّسْرُ إلى بَلَدِكُمُ الدَّافِئِ!

أخَذَني مِنَ يَدي باسِماً:

- هَيّا نُجُلْ في مُدُنِ وقُرى وَطَني، لِتُمَلِّيَ عَيْنَيْكَ بِمَناظِرِها الطَّبيعِيَّةِ، ويَسْمُرَ لَوْنُكَ بِشَمْسِها الْفِضِّيَّةِ. تَأمَّلْ (أرْضَ الْجَزيرَةِ) الَّتي تَتَوَسَّطُ بَلَدي بَيْنَ النِّيلَيْنِ الأبْيَضِ والأزْرَقِ، إنَّها صالِحَةٌ لِلزِّراعَةِ، تُنْتِجُ الْقَمْحَ والشَّعيرَ، والذُّرَةَ الْغِذاءَ الرَّئيسِيَّ لَنا، والْقُطْنَ الَّذي يَتَمَيَّزُ بِقُوَّتِهِ ونُعومَتِهِ، ونَصاعَةِ بَياضِهِ، والصَّمْغَ الْعَرَبِيَّ. فَضْلاً عَنِ الدُّخْنِ والسِّمْسِمِ واللُّوبِياءِ والْحِمِّصِ والْفولِ والتُّرْمُسِ والْعَدَسِ والْبَصَلِ، والْفَواكِهِ كَالْمانْجو والأناناسِ والْمَوْزِ، والْبَلَحِ...وتَتَوَفَّرُ عَلى ثَرَواتٍ حَيَوانِيَّةٍ هائِلَةٍ، تُقَدَّرُ بِثَلاثينَ مَلْيوناً مِنَ الْماشِيةِ، مِنْها الْجِمالُ والْبَقَرُ والْغَنَمُ والْمَعْزُ.

وتَنْتَشِرُ غاباتٌ كَثيفَةٌ، تَزْخَرُ بِصُنوفِ الشَّجَرِ، وأنْواعِ الْحَيَواناتِ، كَالْقِرَدَةِ والْفِيَلَةِ والنَّعامِ...وهُناكَ مِنْطَقَةٌ، نُطْلِقُ عَلَيْها (حَدائقَ الْبَحْرِ) تَضُمُّ أسْماكاً مُلَوَّنَةً، وشِعاباً مَرْجانِيَّةً، وإسْفَنْجاً وأشْجاراً بَحْرِيَّةً.

وإذا كانَ الْمَغْرِبُ يَفْتَخِرُ بِإفْرانَ وإيموزّارَ، كَمُصْطافَيْنِ جَميلَيْنِ، ومِصْرُ بِالإسْكَنْدَرِيَّةِ، والسَّعودِيَّةُ بـ(الطّائفِ) فَإنَّ وَطَني الْعَزيزَ السّودانَ يَفْتَخِرُ بمَدينَةِ (ارْكْويتْ) الَّتي تَتَرَبَّعُ عَروساً فَوْقَ قِمَةَ جَبَلٍ شاهِقٍ، يَعْلو بِثَلاثَةِ آلافِ قَدَمٍ، وتُطِلُّ عَلى الْبَحْرِ الأحْمَرِ.

قُلْتُ لَهُ فَخوراً :

- يا لَها مِنْ أرْضٍ سَخِيَّةٍ، تُدِرُّ كُلَّ هَذِهِ النِّعَمِ ، فَماذا عَنْ مُدُنِكُمْ، ألا تُريدُ أنْ تَأْخُذَني إلى زيارَتِها؟

أطْلَقَ ضَحْكَةً، وقالَ:

- لَنْ تَعودَ إلى بِلادِكَ، إلاّ وأنْتَ أسْمَرُ اللَّوْنِ مِنَ التِّجْوالِ والتِّرْحالِ!..هَذِهِ الْخُرْطومُ، عاصِمَةُ بِلادي، تَبْدو لَكَ شَكْلاً مُثَلَّثاً بَيْنَ النِّيلَيْنِ، الأبْيَضِ والأزْرَقِ. وكَما أنَّ مَدينَةَ سَلا الْمَغْرِبِيَّةِ تُقابِلُ الْعاصِمَةَ الرِّباطَ، هَكَذا تَرى مَدينَةَ ( أُمِّ دِرْمانَ) تُقابِلُ الْخُرْطومَ عَلى الضِّفَّةِ الْيُسْرى مِنَ النيلِ الأبْيَضِ، وتُقابِلُها مَدينَةُ ( الْخُرْطومِ بَحْري) عَلى الضِّفَّةِ الْيُمْنى مِنَ النِّيلِ الأزْرَقِ. ويُؤَلِّفُ هَذا الثُّلاثِي مَدينَةً واحِدَةً، هِيَ الَّتي نُسَمِّيها (الْمَدينَةَ الْمُثَلَّثَةَ) أوْ كَما يَحْلو لِلْبَعْضِ أنْ يَقولَ :(ثَلاثَ كُبْرى) كُبْرى أُمِّ دِرْمانَ، كُبْرى النّيلِ الأزْرَقِ، كُبْرى النّيلِ الأبْيَضِ. وبِما أنَّ هَذا الْمَوْقِعَ يُشْبِهُ خُرْطومَ الْفيلِ، فَإنَّنا أطْلَقْنا عَلى عاصِمَتِنا اسْمَ (الْخُرْطومِ).

وتوجَدُ مُدُنٌ أُخْرى، مِثْلَ (بورْسودانٍ) الَّتي تَقَعُ عَلى الْبَحْرِ الأحْمَرِ، وتُعَدُّ الْميناءَ الرَّئيسِيَّ، إذْ مِنْهُ نُصَدِّرُ غَلاّتِنا وسِلَعَنا وبَضائعَنا، وفيهِ نَسْتَقْبِلُ وارِداتِنا. سَرِّحْ عَيْنَيْكَ بَعيدا في زُرْقَةِ الْبَحْرِ السّاحِرَةِ الْفاتِنَةِ..

أشارَ إلَى إحْدى السُّفُنِ السّودانِيَّةِ، والْعَلَمُ يُرَفْرِفُ فِي مُقَدِّمَتِها:

- إنَّهُ عَلَمُ وَطَني السّودانِ، تُزَيِّنُهُ أرْبَعَةُ ألْوانٍ، هِيَ: الأحْمَرُ في الأعْلى، يَرْمُزُ إلى شُهَداءِ الْوَطَنِ في سَبيلِ حُرِّيَّتِهِ. والأبْيَضُ في الْوَسَطِ، يَرْمُزُ إلى السَّلامِ والنّورِ والْوِئامِ والْمَحَبَّةِ بَيْنَ أهْلِ السّودانِ. والأسْوَدُ هُوَ عِنْدَنا الأزْرَقُ، لأنَّهُ يُشيرُ إلى النِّيلِ بِزُرْقَةِ مِياهِهِ، وما يَحْمِلُهُ مِنْ خَيْراتٍ عَميمَةٍ إلى أرْضِنا. أمّا الأخْضَرُ الَّذي يَمْتَدُّ مُثَلَّثاً، يَصِلُ بَيْنَ الألْوانِ الثَّلاثَةِ، فَيَدُلُّ عَلى أرْضِنا الْفِلاحِيَّةِ الْخِصْبَةِ، وثَرَواتِها الزِّراعِيَّةِ مِنْ حُبوبٍ وغِلالٍ وفَواكِهَ وقُطْنٍ..والآنَ، لِتُرافِقْني إلى مَنْزِلي، نَتَناوَلْ مَعاً أُكْلَةً سودانِيَّةً.

قُلْتُ لَهُ :

- بِكُلِّ سُرورٍ، وأمْس فَقَطُّ، تَناوَلْتُ أُكْلَةً قَطَرِيَّةً لَذيذَةً لَمْ أذُقْ مِثْلَها في حَياتي.

- إذَنْ، عِنْدَما تَعودُ إلَى وَطَنِكَ، ما عَلَيْكَ إلاّ أنْ تَفْتَحَ مَطْعَماً، تُقَدِّمُ فيهِ لِلزَّبائِنِ ألْواناً مِنَ الأطْعِمَةِ الْعَرَبِيَّةِ.

قالَ مازِحاً، وتَوَجَّهْنا إلى مَنْزِلِهِ، فَاسْتَقْبَلَتْنا أُمُّهُ بِوَجْهٍ بَشوشٍ، وأدْخَلَتْنا إلى غُرْفَةِ الطَّعامِ، ثُمَّ أحْضَرَتْ طَبَقاً ساخِناً، وهِيَ تَقولُ:

- حَضَّرْتُ لَكُما أكارِعَ بِالدِّمْعَةِ.

اِسْتَغْرَبْتُ مِنْ كَلامِها، فَسَألْتُها:

-كَيْفَ تَطْبُخينَ بِالدَّمْعَةِ، ألَيْسَ لَدَيْكِ زَيْتٌ؟!

ضَحِكَتْ مِنّي قائلَةً:

- لا يَذْهَبُ عَقْلُكَ بَعيداً، ياوَلَدي!..أقْصِدُ أنَّني سَلَقْتُ كُرَاعَيْنِ في الْماءِ، وأضَفْتُ لَهُما خَمْسَ حَبّاتٍ مِنَ الطَّماطِمِ، وخَمْسَةَ فُصوصٍ مِنَ الثَّوْمِ، وبَصْلَتَيْنِ كَبيرَتَيْنِ، وفي الأخيرِ، زَيَّنْتُها بِـ(الصَّلَصَةِ) الَّتي نُسَمّيها (الدِّمْعَةَ)!

مَدَدْتُ يَدي، أغْمِسُ قِطْعَةَ خُبْزٍ في الطَّبَقِ، ولَمّا ألْقَيْتُ اللُّقْمَةَ الأولى في فَمي، وَجَدْتُها لَذيذَةً، فَانْتَشَيْتُ قائلاً:

- اَللَّهُ اَللَّهُ، أُكْلَةٌ شَهِيَّةٌ، أسالَتِ لُعابي عَلى ذَقَني وصَدْري!

وهَكَذا قَضَيْتُ سُوَيْعاتٍ بَيْنَ إخْوَتي في السّودانِ، إلى أنْ حانَ أوانُ الْعَوْدَةِ، فَأطْلَقْتُ صَفيراًً، وإذا بِالنَّسْرِ يَحْضُرُ في التَّوِّ واللَّحْظَةِ، ويُطِلُّ مِنَ النّافِذَةِ، ثُمَّ يَنْظُرُ يَميناً ويَساراً في أرْجاءِ الْغُرْفَةِ، ويَسْألُنا حائراً:

- ألا تَدُلاني عَلى طِفْلٍ مِنَ (الْبيضانِ) صَفَّرَ لي قَبْلَ قَليلٍ؟!

أشارَ أحْمَدُ بِأُصْبُعِهِ إلَيَّ:

- ها هُوَ أمامَكَ، لَقَدْ أصْبَحَ مِنَ (السّودانِ) بِفَضْلِ أشِعَّةِ الشَّمْسِ الدّافِئَةِ، وطَقْسِهِ الصِّحِّيِّ الْحارِّ!

تَفَرَّسَ مُحَيّايَ لِيَتَأكَّدَ، وحَنى ظَهْرَهُ، فَوَثَبْتُ فَوْقَهُ، وأنا أُحَيِّي أخي أحْمَدَ وأُمَّهُ، فيما كانَ النَّسْرُ يُحَلِّقُ، عائداً بي إلى بِلادي!

 


 

العربي بنجلون