حَنَانٌ وبَهِيجَةٌ.. قصة: محمد عز الدين التازي

حَنَانٌ وبَهِيجَةٌ.. قصة: محمد عز الدين التازي

رسم: حلمي التوني

عَاشَتْ حَنَانٌ الْفَقْرَ وَالْحَاجَةَ فِي بَيْتِ وَالِدِهَا الْفَلاَّحِ الْفَقِير، فَقَدْ شَحَّ الْمَطَر، وَلَمْ تَكُنْ لِوَالِدِ حَنَانٍ أَرْضٌ يَحْرُثُهَا، أَوْ مَاشِيّةٌ يَرْعَاهَا.كَانَ يَعْمَلُ في أَرَاضِي الْغَيْر، وَلَمَّا شَحَّ الْمَطَرُ قَلَّ الْحَرْثُ وَالزَّرْع، فَلَمْ يَجِدْ عَمَلاً يَعْمَلُه.

فَكَّرَ وَالِدُ حَنَانٍ فِي أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى الْمَدينَةِ لِيَبْحَثَ فِيهَا عَنْ عَمَل، لَكِنَّهُ تَخَوَّفَ مِنْ خَوَضِ غِمَارِ هَذِهِ التَّجْرِبَة، ولَمْ يَشَأْ أَنْ يُغَادِرَ الأَرْضَ التي وُلِدَ فِيهَا وَعَاشَ وَتَزَوَّجَ وَأَنْْجَبَ ابْنَتَهُ حَنَانًا وَوَلَدَيْهِ عَبَدَالرحْمَنِ وَالمَهْدي، اللَّذَيْنِ يَصْغُرَانِهَا بِعِدَّةِ أَعْوَام.

جَاءَ فَاعِلُ خَيْرٍ إِلَى وَالِدِ حَناَن، فَاقْتَرَحَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَ حَنَانًا إِلَى الْمَدِينَةِ لِتَعْمَلَ فِي أَحَدِ الْبُيُوتِ خََادِمَة، لَكِنَّ وَالِدَ حَنَانٍ رَفَضَ الاِقْتِرَاحَ في أَوَّلِ الأَمْر، وقَال:

كَيْفَ أُرْسِلُ فَلْذَةَ كَبِدِي لِتَعْمَلَ فِي بَيْتِ أُنَاسٍ لاَ نَعْرِفُهُم، ورُبَّمَا يَكُونُونَ قُسَاةً فَيَقْسُونَ عَلَيْهَا؟

رَدَّ عَلَيْهِ فَاعِلُ الْخَيْر:

- إِنَّ عَمَلَ ابْنَتِكَ سَوْفَ يُدرُّ عَلَيْكَ دَخْلاً شَهْرِيًّا بِهِ تَعِيشُ أَنْتَ وَأُسْرَتُك، وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ قُسَاةً كَمَا تَتَصَوَّر، فَفِي الْمَدِينَةِ أُنَاسٌ طَيِّبُون.

قَضَى وَالِدُ حَنَانٍ لَيْلَتَهُ وَهُوَ يُفَكِّرُ فِي الْأَمْر، وَفِي صَبَاحِ الْغَدِ دَعَا ابْنَتَهُ لِيُخْبِرَهَا بِمَا فَكَّرَ فِيه، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ قَرَّرَ إِرْسَالَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ لِتَعْمَلَ فِي أَحَدِ الْبُيُوت. شَهِقَتْ حَنَان:

- الْمَدِينَة! أَحَقًّا يَا أَبِي؟

لَمْ يَدْرِ وَالِدُهَا أَهِيَ حَزِينَةٌ أَمْ فَرِحَةٌ لِهَذَا الْأَمْر، وَلَمَّا اسْتَفْسَرَهَا وَجَدَهَا رَاضِيَّةً، وَأَخْبَرَتْهُ بِأَنَّ بَنَاتٍ كَثِيرَاتٍ مِنَ الْقَرْيَةِ يَعْمَلْنَ فِي الْمَدِينََة، وَقَدْ حَدَّثْنَهَا عَنْ أَشْيَاءَ غَرِيبَةٍ شَاهَدْنَهَا هُنَاك، خِلاَلَ عَوْدَتِهِنَّ.

اِتَّصَلَ وَالِدُ حَنَانٍ بِفَاعِلِ الْخَيْر، فَأَرْشَدَهُ إِلَى رَجُلٍ يَعْمَلُ هُوَ وَزَوْجَتُهُ فِي أَحَدِ البُنْوك، لَهُمَا طِفْلَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى من يَرْعَاهَا، وَإِنْ أَحْسَنَتْ حَنَانٌ إِلَى الطِّفْلَةِ فَسَوْفَ يُعَامِلُهَا أَبَوَاهَا بِالْحُسْنَى، ثُمَّ أَعْطَاهُ عُنْوَانَ الْبَنْكِ.

سَافَرَتْ حَنَانٌ مَعَ وَالِدِهَا إلَى الْمَدِينَة، فَأَذْهََلَتْهَا الشَّوَارِعُ الْفَسِيحَةُ وَالْمَتَاجِرُ وَحَرَكَةُ السَّيَّارَاتِ وَالْحَافِلاَت.

اِلْتَقَى وَالِدُ حَنَانٍ بِمُوَظَّفِ الْبَنْكِ وَزَوْجَتِه، فَرَحَّبَا بِحَنَان، ولَمَّا أَوْصَاهُمَا وَالِدُهَا بِأَنْ يَفْعَلاَ بِهَا خَيْراً، أَكَّدَا لَهُ أَنَّهَا سَتَكُونُ كَابْنَةٍ لَهُمَا.

كَانَتْ لَحْظَةُ تَوْدِيعِ حَنَانٍ لِوَالِدِهَا مُؤَثِّرَة، فَطَفَرَتِ (خرجت) الدُّمُوعُ مِنْ عَيْنَيْهَا، وَتَظَاهَرَ وَالِدُهَا بِالصَّبْرِ، إِذْ كَانَ لاَ يُطِيقُ فِرَاقَ ابْنَتِه.

أَخَذَ الرَّجُلُ وَزَوْجَتُهُ حَنَانًا إلَى البَيْتِ، فَرَأَتْ فِيهِ أَثَاثًا لَمْ تَعْهَدْهُ فِي بَيْتِهِمْ فِي الْقَرْيَة، وهُنَاكَ تَعَرَّفَتْ على ابْنَتِهِمَا بَهِيجَة.

كَانَتْ بَهِيجَةُ صَبِيَّةً فِي الثَّالِثَةِ مِنْ عُمْرِهَا، جَمِيلَةً كَالقَمَر، فَاقْتَرَبَتْ مِنْهَا حَنَانٌ وَقَبَّلَتْهَا عَلَى خَدِّهَا وَأَخَذَتْ تُلاَعِبُهَا. وَتَطَلَّعَتْ بَهِيجَةُ إِلَى حَنَانٍ فَاقْتَرَبَتْ مِنْهَا هِيَ الْأُخْرَى وَقَدْ بَدَتْ فَرِحَةً بِوُجُودِ حَنَان.طَبَعَتْ قُبْلَةً على خَدِّهَا.

سَرْعَانَ مَا نَشَأَتِ الْأُلْفَةُ بَيْنَ بَهِيجَةَ وَحَنَان، فَصَارَتَا كَأُخْتَيْن، مِمَّا أَفْرَحَ أَبَوَيْ بَهِيجًة، فَأَغْدَقَا مِنْ عَطْفِهِمَا عَلَى حَنَان، وأَخَذَا يَرْعَيَانِهَا وَكَأَنَّهَا بِنْتٌ لَهُمَا. اِشْتَرَيَا لَهَا مَلاَبِسَ جَدِيدَة، وَكَانَتْ رَبَّةُ الْبَيْتِ لاَ تُكَلِّفُهَا بِالأَشْغَالِ الَّتِي لاَ تُطِيقُهَا، كَمَا كَانَتْ فِي يَوْمِ الجُمعة تَخْرُجُ مَعَ الْأُسْرَةِ إِلَى بَعْضِ النُّزَه، فَتُلاَعِبُ بَهِيجَةَ وَتَمْرَحُ مَعَهَا.

تَأَسَّفَ وَالِدُ حَنَانٍ لِكَوْنِهَا لا تَقْرَاُ ولا تَكْتُب، فَقَرَّرَ إِلْحَاقَهَا بِمَدْرَسَةٍ لِمَحْوِ الأُمِّيَّة، وبَدَأَتْ حَنَانٌ بِذَكَائِهَا تَتَعَلَّمُ القِرَاءَةَ والكِتَابة.

رَغْمَ سَعَادَةِ حَنَانٍ بِمَا عَاشَتْهُ فِي بَيْتِ بَهِيجَة، فَقَدْ كَانَتْ تَشْعُرُ بِلَوْعَةِ فِرَاقِ وَالِدَيْهَا وَأَخَوَيْهَا الصَّغِيرَيْن: عَبْدِالرَّحْمَنِ وَالمَهْدي، وَعَنْزَتِهَا الَّتِي كَانَتْ تُرَبِّيهَا، وَالشَّجَرَةِ الَّتِي تُظَلِّلُ جَانِبًا مِنَ الكُوخِ الَّذِي تَسْكُنُهُ أُسْرَتُهَا، وَالفُرْنِ الطِّينِيِّ الَّذِي كَانَتْ تُشْعِلُ فِيهِ نَارَ الحَطَب.

أَقْبَلَ الْعِيدُ فَزَادَ شَوْقُ حَنَانٍ لِأُسْرَتِهَا، وَأَصْبَحَتْ شَارِدَةً تُفَكِّرُ فِي أَهْلِهَا، إِلَى أَن أخْبَرَتْ أُمَّ بَهِيجَةَ بِمَا بِهَا، فَرَقَّتْ لِحَالِهَا.

قَرَّرَ وَالِدَا بهيجة قَضَاءَ يَوْمِ الْعِيدِ فِي الْبَادِيَّة، مَعَ أُسْرَةِ حَنَان. اِشْتَرَى وَالِدُ حَنَانٍ لَوَازِمَ الْعِيد، مِنْ لُحُومٍ وَخُضَرٍ وَفَوَاكِهَ وَحَلَوِيَّات، وَاشْتَرَى ِلأَخَوَيْ حَنَانٍ مَلاَبِسَ جَدِيدَة، ولُعَبًا وَأَنْوَاعًا مِنَ الْحَلْوَى، كَمَا اشْتَرَى لِوَالِدِهَا جِلْبَابًا أَبْيَضَ وَطُرْبُوشًا وَحذاء، وَِلأُمِّهَا لِبَاسًا مُزَرْكَشًا مُتَعَدِّدَ الأَلْوَان، وَفِي صَبَاحِ يَوْمِ الْعِيدِ أَخَذُوا كُلَّ تِلْكَ العُدَّةِ في السَّيَّارَة، وسَافَرُوا مَعَ حَنَانٍ إِلَى بَادِيَّتِهَا. فِي الطَّرِيقِ كَانَتْ حَنَانٌ شَدِيدَةَ الشَّوْقِ إِلَى أَهْلِهَا، وَمَا وَصَلُوا حَتَّى كََانَتِ الْمُفَاجَأِةُ سَارَّةً ِلأُسْرَةِ حَنَان، وَكَانَ اللِّقَاءُ مَغْمُورًا بِالشَّوْقِ وَالْمَحَبَّة.

قَضَتْ حَنَانٌ يَوْمًا سَعِيدًا مَعَ أُسْرَتِهَا، فَاشْتَرَكَتْ فِي اللَّعِبِ مَعَ أَخَوَيْهَا بِصُحْبَةِ بَهِيجَة، كَمَا اشْتَرَكَ وَالِدُ بَهِيجَةَ وَأُمُّهَا مَعَ وَالِدَيْ حَنَانٍ فِي أَحَادِيثَ وِدِّيَّةٍ، وَخِلاَلَ تَنَاوُلِ طَعَامِ الْغَذَاءِ الَّذِي أَعَدَّتْهُ أُمُّ حَنَانٍ وَأُمُّ بَهِيجَة تَقَاسَم الْجَمِيعُ مَا كَانَ عَلَى الْمَائِدَةِ مِنْ طَعَامٍ وَحَلَوِيَّات، وَسَادَ الْفَرَحُ بِيَوْمِ الْعِيد، وَبِلِقَاءِ حَنَانٍ مَعَ أُسْرَتِهَا.

فِي الْمَسَاء، أَعْلَنَ وَالِدُ بَهِيجَةَ أَنَّهُ كًلَّمَا أَتَاحَتْ لَهُ ظُرُوفُ عَمَلِهِ هُوَ وَزَوْجَتُهُ الْفُرْصَةَ فَسَوْفَ يُكَرِّرُ هَذِهِ الزِّيَّارَة، لِتَصِلَ حَنَانٌ الرَّحِمَ مَعَ أُسْرَتِهَا. وَكَذَلِكَ كَانَ، فَقَدْ كَثُرَتِ الزِّيَّارَات، وَتَوَطَّدَتْ أَوَاصِرُ الْمَحَبَّةِ بَيْنَ الْأُسْرَتَيْن.

زَادَ تَعَلُّقُ حَنَانٍ وَبَهِيجَةَ كلٌ منهما بالأخرى، وَعَاشَتَا فِي وَئَام.

 

 


 

محمد عز الدين التازي