مؤسس خطي النسخ والثلث الخطاط الوزير بن مقلة.. قُطعت يدي اليمنى.. فأبدعت باليسرى!

مؤسس خطي النسخ والثلث الخطاط الوزير بن مقلة.. قُطعت يدي اليمنى.. فأبدعت باليسرى!

رسوم: أيادوهيب حمادة

من كان يظن أنني، أنا محمد بن علي بن الحسن بن مقلة المولود في بغداد، المهندس ومؤسس قاعدتي خطي الثلث والنسخ، سأصبح وزيراً؟

لكم أن تسألوني متعجبين: وما الذي فعلته، ليبقى اسمي يتردد على لسان كل خطاط في مشارق الأرض ومغاربها؟..

أجيبكم بفخر: إنني بذلت كل ما في جهدي، ليل نهار في القراءة وكتابة الشعر والنثر وفي تجويد الخط، ولم أكن أهدر وقتي كما يفعل البعض.. لا يا أبنائي، فبالإضافة إلى ما ذكرت قمت بتأليف كتاب في« .. علم الخط والقلم» .

ولعلكم يا أبنائي ستسألون من أين جاء لقب ابن مقلة؟

عرفت بـ«ابن مقلة» لأن جدي كان يداعب ابنته ـ أمي ـ في صغرها، ويقول لها: «يا مقلة أبيها» فغلب عليها هذا الاسم واشتهرت به، فاتصل هذا الاسم المشهور بي!

ولدت ببغداد في شوال من سنة 272 هـ/ 886م، ساهم في شهرتي انتشار خبر ما كتبته بيدي في كتاب الهدنة التي وقعت ما بين المسلمين والروم.

بعد ذلك أصبحت وزيراً في عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله لأربع عشرة ليلة وقبض عليّ وتم نفيي إلى بلاد فارس بعد أن صودرت أموالي!

ولما آلت الخلافة إلى القاهر بالله أرسل في طلبي واتخذني وزيراً.. ثم اتهمت بمعاضدة علي بن بليق الذي خرج على الخليفة، فبلغني الخبر أن الخليفة يريدني، فلم يكن أمامي مفر سوى الاختفاء والاختباء عن عيون الخليفة وأعوانه.

بقيت على هذا الحال متخفياً بزي رجل أعجمي وأخرى بزي رجل فقير ناسك وأحياناً بزي امرأة، إلى أن آلت الخلافة إلى الخليفة الراضي بالله.

فاستوزرني الخليفة الراضي ..

ولكن نتيجة للحقد الذي يكنه الوزير المظفر بن ياقوت لي.. والذي كان له تأثير كبير على الخليفة، فملأ صدره ضدي.. ، اتفق مع الغلمان الذين يعملون في دار الخلافة على إلقاء القبض عليّ فور دخولي دهليز دار الخلافة.

قبضوا علىّ، ثم أرسلوني إلى الخليفة الراضي، وقد عددوا للخليفة ذنوباً وأسباباً تقضي ذلك الإجراء.

بقيت يا أبنائي على هذا الحال عرضة للمحن والفتن إلى أن أصدر الخليفة أمراً بقطع يدي اليمنى ورميها في نهر دجلة!

لكن وبعد فوات الأوان عاد الخليفة وندم على إصداره ذلك الأمر الظالم بحقي، وأمر الطبيب الحسن بن ثابت بن سنان بن قرة بمعالجتي في السجن.

وكان قدوم الطبيب بالنسبة لي فرصة لا تعوض، لأقول له ما يجول في داخلي، لا سيما أن الخليفة عاملني بطريقة قاسية على ذنب لم أقترفه.. ومما قلته بحضور الطبيب: «قد خدمت بها الخلافة ثلاث دفعات لثلاثة من الخلفاء، وكتبت بها القرآن الكريم دفعتين، تقطع كما تقطع أيدي اللصوص».

وردّ الطبيب الحسن بن ثابت عليّ بالقول: «هذا انتهاء المكروه وخاتمة القطوع».

لم يرق للخليفة الراضي أن أبقى في السجن فأرسل من يخلي سبيلي ورشحني للوزارة من جديد قائلاً: «إن قطع اليد ليس مما يمنع من الوزارة». وأثناء عملي كنت أشد القلم إلى ساعدي وأكتب به، وأخذت أمرن يدي اليسرى حتى أجدت الكتابة بها.

لم تتوقف المكائد ضدي يا أبنائي، فقد تعرضت بعد ذلك لمحن شديدة قاسية وبشعة لا يحتملها عقل، فقد أمر الخليفة الراضي بالله، بقطع لساني وحبسي.. ولم يكن في السجن من يخدمني، فكنت أستقي الماء لنفسي من البئر فأجذب بيدي اليسرى جذبة وبفمي جذبة أخرى.

من كان يظن يا أبنائي بعد كل ما حققته على صعيد الخط العربي من حيث هندسة الحروف، ووضع القوانين والقواعد لها، بعد أن قدّرت مقاييسها وأبعادها بالنقط وضبطها ضبطاً محكماً.. أن أعامل بهذه الطريقة؟

ومن الصدف العجيبة في حياتي، أنني توليت الوزارة ثلاث مرات، ودفنت بعد موتي ثلاث مرات، الأولى في دار الخلافة، ونبش قبري، بناء على طلب ابني حيث دفنت في داره، ثم طلبتني زوجتي، ودفنت في دارها، بقصر أم حبيب، وسافرت في عمري ثلاث سفرات!

أخيراً وقبل أن أودعكم أشير إلى أنني توفيت بالسجن في شهر شوال 328 هـ، تاركاً لكم عدداً من المؤلفات والرسائل والأشعار.. وقبل أن أغادركم أود أن أنبه إلى الخطر الذي يحدق بالخط العربي والمحنة التي أصبح يواجهها في زمانكم، بضرورة العلو والارتقاء به، وتدريسه في المدارس والكليات والجامعات.. حتى لا يسحق تحت عجلات الخطوط الحديثة التي تنتجها الآلة وبشكل خاص الحاسوب.

 

 


 

إعداد: غازي انعيم