من الهلال إلى البلورة.. عمرو خيري

من الهلال إلى البلورة.. عمرو خيري
        

          قبل حوالي 150 عاما وبالتحديد في يوم الرابع والعشرين من شهر يونيو (حزيران) عام 1859 ميلادي، حدثت حربٌ في بلدة صغيرة اسمها سولفرينو، تقع شمال إيطاليا.

          اشتبك جيشُ دولة النمسا مع جيش جمهورية فرنسا، وبعد ست عشرة ساعة من المعارك الشرسة، امتلأت ساحة القتال، بأجساد أربعين ألف شخص، بعضهم قتيل، وبعضهم جريحٌ.

          مساء ذلك اليوم نفسِه وصل إلى البلدة مواطن سويسري اسمه هنري دونان، كان قادمًا إلى إيطاليا في رحلة عمل، فإذا به يرى آلاف الجنود الجرحى من الجيشين المتحاربين وهم يعانون.

          دعا هنري دونان السكان المحليين ليساعدوه في علاج الجرحى. وعندما عاد إلى بلاده سويسرا أصدر هنري دونان كتابًا عنوانه: «تذكار سولفرينو» وجه فيه نداءين إلى كل البشر في كل دول العالم.

          كان النداء الأول يدعو إلى تشكيل جمعيات للإغاثة في وقت السلم، تضم ممرضين وممرضات، يستعدون لرعاية الجرحى وقت الحرب. وكان النداء الثاني يدعو فيه كل دول العالم للاعتراف بهؤلاء المتطوعين الذين يساعدون أطباء الجيش، وحمايتهم بموجب اتفاقية دولية.

          في مدينة جنيف العاصمة السويسرية موطن هنري دونان، وفي عام 1863 ميلادي، تشكلت «جمعية جنيف للمنفعة العامة» تضم هنري دونان  نفسه مع جوستاف موانييه، وغيوم ـ هنري دودفور، ولوي أبيا، وتيودور مونوار، لبحث تطبيق أفكار هنري دونان، وأنشأوا «اللجنة الدولية لإغاثة الجرحى».

          وقد اختار هنري دونان ورفاقه لوني العلم السويسري الأبيض والأحمر بالمعكوس ليكون شعار «اللجنة الدولية لإغاثة الجرحى». ولأن الصليب الذي كان شعار علم سويسرا أصبح لونه أحمر، على أرضية بيضاء، فقد سميت اللجنة باسم: «اللجنة الدولية للصليب الأحمر».

          في يوم السادس والعشرين  من أكتوبر (تشرين أول) عام 1863 ميلادي، دعا المؤسسون الخمسة، هنري دونان ورفاقه، أعضاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى مؤتمر دولي في مدينة جنيف. ولبت الدعوة 16 دولة وأربع جمعيات إنسانية.

          وفي العام التالي، عقدت الحكومة السويسرية مؤتمرا دعت إلى حضوره كل الدول، فشاركت حكومات 12 دولة، اعتمدوا معاهدة (اتفاقية) بعنوان: «اتفاقية جنيف لتحسين حال جرحى الجيوش في الميدان». وهي أولى معاهدات القوانين الإنسانية.

          بعد ذلك عقدت مؤتمرات أخرى لمساعدة ضحايا الحرب كأسرى الدول، الذين يؤخذون فيُسجنون بواسطة دولة أخرى، أثناء الحروب. وفي مدينة جنيف عام 1949 ميلادي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، اعتمدت الدول اتفاقيات جنيف الأربع، لحماية المدنيين (أي غير الجنود) أثناء الحروب. وأضيفت حماية أكبر في مؤتمر عقد في الصين بعد ذلك عام 1977 ميلادي.

          اختارت الإمبراطورية العُثمانية عام 1876 ميلادي شعار الهلال الأحمر بدلا من الصليب الأحمر للتعبير عن الجمعية المماثلة وتبعتها كل الدول الإسلامية. لأن هذه الدول اعتقدت أن الصليب هو رمز ديني. لذلك أصرت على استبداله بالهلال، رمز الدين الإسلامي.

          واليوم تنتشر في كل أنحاء العالم «اللجان الدولية للهلال الأحمر» و«اللجان الدولية للصليب الأحمر»، ويبلغ عدد أعضائها مائة مليون عضو ومتطوع. ولأنشطة الصليب الأحمر والهلال الأحمر غاية أساسية واحدة هي منع وتخفيف الآلام البشرية دون تمييز بين الأشخاص، وذلك عبر مبادئها السبعة.

          وأول المبادئ هو الإنسانية، ومعناه احترام الإنسان في كل مكان، وتعزيز التفاهم والصداقة بين الشعوب. وثاني المبادئ عدم التحيز لطرف ضد طرف آخر مهما كان الاختلاف بينهما في الدين واللون والرأي. وثالث المبادئ هو الحياد، أي عدم محاباة طرف ضد آخر.

          ومن مبادئ الهلال الأحمر والصليب الأحمر، مبدأ الاستقلال. أي أن الهلال الأحمر والصليب الأحمر يعملان مستقلين عن الحكومات في أي بلد، وأنها خدمة تطوعية، لا تسعى للربح، وتوجد في كل بلد جمعية واحدة للهلال الأحمر أو للصليب الأحمر.

          ولأنها حركة دولية عالمية فهي تمارس نشاطها في كل أنحاء العالم. وقد وصل عدد الدول الموقعة والموافقة على اتفاقيات جنيف 189 دولة.

          اتفاقية جنيف الأولى (عام 1949 ميلادي) تحمي أفراد القوات المسلحة الجرحى والمرضى في أرض ميدان المعركة. واتفاقية جنيف الثانية (عام 1949 ميلادي)، تحمي أفراد القوات المسلحة الجرحى والمرضى والغرقى في البحار. واتفاقية جنيف الثالثة (عام 1949 ميلادي) تحمي أسرى الحرب. واتفاقية جنيف الرابعة (عام 1949 ميلادي) تحمي الأشخاص المدنيين المواطنين وغيرهم الذين ليسوا في القوات المسلحة.

          البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقية جنيف (عام 1977 ميلادي) يحمي ضحايا النزاعات المسلحة الدولية. البروتوكول الإضافي الثاني لاتفاقية جنيف (عام 1977 ميلادي) يحمي ضحايا النزاعات المسلحة  غير الدولية.

          ولكي نفرق بين ما ذكرته الاتفاقيات من تعريفات فإن النزاع المسلح الدولي هو حرب بين قوات دولتين أو أكثر. والنزاعات المسلحة  غير الدولية هي مواجهة داخل الدولة الواحدة. والاضطرابات الداخلية معناها استخدام القوات المسلحة ضد المواطنين. والتوتر الداخلي يحدث عندما تستخدم القوة رغم عدم وجود اضطرابات داخلية وذلك لحفظ القانون.

          تساعد اللجنة الدولية للصليب الأحمر واللجنة الدولية للهلال الأحمر في محاربة الأمراض برش المبيدات على المياه الراكدة حول مخيمات ضحايا الحروب الهاربين من مواطنهم. وضحايا الزلازل. تساعد اللجنة الدولية للصليب الأحمر واللجنة الدولية للهلال الأحمر في الحصول على المياه الصالحة للشرب، ومعالجة جرحى ومرضى الحروب، وتدريب المواطنين على القيام بالتمريض ومساعدة المرضى والجرحى. ونزع الألغام التي زرعتها الجيوش والتي تصيب وتجرح وتقتل الناس. وتقديم المساعدات الطبية للذين فقدوا أطرافا من أجسامهم، كالأيدي والسيقان الصناعية، بسبب الحروب والألغام.

          في عام 1999 ميلادي، بعد مرور خمسين عامًا على اتفاقيات جنيف، قامت اللجنة الدولية للصليب الأحمر واللجنة الدولية للهلال الأحمر بعمل لقاءات مع أكثر من عشرين ألف شخص عاشوا تجربة الحروب في 12 بلدًا منها فلسطين ولبنان وأفغانستان والبوسنة والهرسك والصومال. وتستفيد اللجان الدولية للصليب الأحمر واللجان الدولية للهلال الأحمر من آراء هؤلاء لتحسين خدماتها.

          توظف اللجنة الدولية للصليب الأحمر واللجنة الدولية للهلال الأحمر الأطباء والمترجمين عن لغات العالم، وسائقي الشاحنات والمهندسين الزراعيين والمحاسبين وأخصائيي التغذية والسكرتيرات والممرضات والنجارين ورجال القانون والميكانيكيين. وجميع المهن التي تفيد في أعمالها.

          مواطنو سويسرا والمقيمون فيها يوظفون في اللجنة الدولية للصليب الأحمر بمقرها الرئيسي. المرشحون غير السويسريين ينضمون إلى الجمعيات الخاصة في بلادهم. وتموِّل اللجنة الدولية للصليب الأحمر واللجنة الدولية للهلال الأحمر الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف، والجمعيات الوطنية، والاتحادات الدولية، ومصادر أخرى عامة وخاصة.

          التبرعات إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر واللجنة الدولية للهلال الأحمر تكون طوعية غير إجبارية ويمكن أن تكون نقدية، أو عينية كالسلع الغذائية والملابس، والخيام ومعدات الطهي, أو خدمات مثل الموظفين المتخصصين.

          على الموقع الإلكتروني الرئيسي للجنة الدولية للصليب الأحمر www.icrc.com يمكن الحصول على آخر الأخبار، ونداءات عام 2007، والصور والنشرات، وعناوين مواقع اللجان الدولية للصليب الأحمر واللجان الدولية للهلال الأحمر في دول العالم وفرص العمل داخل اللجنة الدولية، ومشاهدة صور الإغاثة، وأيضا مقاطع من فيلم: اللجنة الدولية للصليب الأحمر في قلب الأحداث.

          بعد الصليب الأحمر والهلال الأحمر تأتي الكريستالة الحمراء. فقد دخل البروتوكول الإضافي الثالث إلى اتفاقيات جنيف لعام 1949 حيز التنفيذ في 14 يناير (كانون ثاني) 2007 بعد ستة أشهر من موافقة أول بلدين عليه. حيث توضع شارة إضافية تستخدمها الحكومات والحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر. ويكون للكريستالة أو للبلورة الحمراء الوضع القانوني نفسه الذي تتمتع به شارتا الصليب الأحمر والهلال الأحمر بموجب القانون الدولي الإنساني لحماية من يستخدمها.

          لدى اللجنة الدولية للصليب الأحمر بعثاتٌ دائمة في 60 دولة، وتنفذ عمليات إغاثة ومساعدات في ما يقرب من 80 دولة.

 


 

عمرو خيري