القصص الجميل.. حكايات من السودان

القصص الجميل.. حكايات من السودان
        

رسوم: أحمد ضاحي

  • حمامةُ المسجدِ

          كان هناك رجلٌ صالحٌ، طيبُ القلبِ يسمى العم علي. عُرف العم علي بحرصِهِ على أداء صلواتِهِ اليوميةِ، في مسجدِ المدينةِ الصغيرِ، كانت تلك المدينةُ تشتهرُ بوجودِ أسرابٍ كبيرةٍ من الحمائمِ جميلةَ الألوانِ، التي كانت ترفرفُ في أجوائِها.

          اشتهر العم علي بملء جيوبِهِ بحبيباتٍ من الدخنِ وإطعامِ حمائم المدينة منه، عند خروجه من دارِه مبكرًا لأداء صلاة الفجرِ، كان العم علي يستمتع بمنظر أسراب حمائم المدينةِ وهي طائرة أو حاطة، مما دعاه لإطعامِ الحمائمِ، مكتسبًا للأجرِ فيها.

          صارت حمائم المدينةِ ترصدُ حركةَ العم علي، من دارِه إلى المسجد وتدركها. كانت حمائمُ المدينةِ تظهر بظهور العم علي عند كل فجر، وتحط على دربِهِ، ملتقطة لحبيبات الدخنِ من بين يدي العم علي المباركة، وهو مطعم ومتمهل.

          ذات يوم مرض العمُ علي، ولم يعد قادرًا على الذهابِ إلى أداءِ صلاة الفجرِ في المسجدِ، غاب في ذلك اليوم العمُ علي عن حرم مسجد المدينةِ، الذي داوم على دخولِهِ من بين أول المصلين عند كل فجرِ، حيث افتقده في حرمِ المسجدِ المصلون.

          افتقدت حمائمُ المدينةِ في الدربِ من الدارِ إلى المسجدِ العم علي أيضًا، وصارت تحلّقُ وتحطُّ على دربِهِ. توالت الأيام ولم يشف العم علي من مرضِهِ، افتقدت حمائمُ المدينةِ العم علي وحبيبات الدخنِ، وحطت على شرفاتِ مسجدِ المدينةِ حزينة.

          ذات ليلة انقضى أجلُ العم علي وانتهت رحلتُه في الدارِ الفانيةِ، وحان ميعاد رحيله إلى الدارِ الباقيةِ، للقاءِ ربِّه . أدركت حمائمُ المدينةِ الحالَ وحطّت على سقفِ دارِهِ غير مبارحة، مبكية له بأصواتِ هديل حزينة، هزّت مباني المدينةِ.

  • الأميرةُ المحبوبةُ 

          كان هناك ملك يحكمُ إحدى الممالكِ. اشتهر ذلك الملكُ، بعدلِهِ بين الناسِ، وصرامته في الحكمِ، لذا كان كلّ الناس، يخشون غضبَ ذلك الملكِ، الذي لم تكن تفلتُ من قبضةِ جنودِهِ يدٌ ظَلَمت. كان ذلك الملكُ ينشرُ جنودَه في كلّ أرجاء المملكةِ، ساهرين على أمنِ وراحةِ أهل المملكةِ، زيادةً على ذلك، حمايةَ عرش الملكِ، الذي تميّز بتمكّنِهِ في حكمِهِ يومًا بعد يوم، لما يبذله من جهدٍ في ذلك.

          كان لذلك الملك أربعُ بناتٍ. الأولى كانت تشتهرُ بحقدِها على أهلِ المملكةِ، والثانيةُ كانت تشتهرُ بغبائِها في تصرّفاتها، والثالثةُ كانت تشتهرُ بحبِّها لنفسِها، والرابعةُ كانت تشتهرُ بذكائها.

          كان أهلُ المملكةِ يكرهونَ البناتَ الثلاث الكبريات، ويحبّون البنتَ الرابعةَ الصغيرةَ، نظرًا إلى ذكائِها وحسن معاملتها لأهلِ المملكةِ، ذلك عكس فعل أخواتها الكبريات، اللاتي صرن يحقدن عليها لذلك السببِ.

          ذات يومٍ اشتدّ المرضُ على الملكِ العادلِ. جمع الملكُ أهل المملكةِ، وبناتَه الأربع وقال لهم إنه يريد أن يتقاعد، ويفكر في اختيارِ إحدى بناتِه الأربع، حتى تنوب عنه في الملكِ بعد موتِهِ. مات الملكُ دون أن يولّي حكمه، لإحدى بناته الأربع، حتى تتولى العرشَ، إنابةً عن والدِها.

          أدركت بناتُ الملكِ الكبريات، مدى حبّ أهل المملكة لأختهنّ الصغيرة، وفرصتها في الفوزِ بالملكِ، إذا ما ظلّت معهنّ. دبّرت بنات الملكِ الكبريات، نفي أختهنّ الصغيرة، إلى غابةٍ مجاورةٍ وقتلها هناك. كلّفت البنتُ الكبيرةُ، أحد الحراسِ بالمهمةِ، دون علم أهل المملكةِ بذلك. ذهب الحارسُ بالبنتِ الصغيرةِ، وخبّأها عند أهل المملكةِ، وأخبرهم بالحاصلِ، ثم مسح سيفَه بدم صيد اصطاده، وعاد إلى البنتِ الكبيرةِ، وأخبرها بأنه قد أنجزَ مهمتَه، فرحت البنتُ الكبيرةُ، وتوقّعت تولية الملك لها قريبًا.

          اختار أهلُ المملكةِ الأميرةَ الصغيرةَ، لكي تتولى الملكَ، بعد أن خبأوها عندهم، عندما أحضرَها الحارسُ، الذي أمرته البنتُ الكبيرةُ، بقتلِ أختِها الصغيرةِ، حتى لا تفوز بتولّي الملك، أخبرت البنتُ الكبيرةُ أهلَ المملكةِ، بأن أختَها الصغيرةَ قد اختفت، ولم تظهر منذ أيّام، وأعربت لهم عن حزنِها، وحزن بقية أخواتها، على فقدان أختهم الصغيرةِ، كان كل ذلك كذبًا، حتى ييأس أهلُ المملكةِ، ويولّوها الملك بدل أختِها الصغيرةَ.

          وعد أهلُ المملكةِ البنتَ الكبيرةَ، بأنهم سوف يقومون، بالبحثِ عن أختِها الصغيرةِ، لكي تتولى الملكَ لأنها فازت به. وافقت البنتُ الكبيرةُ على الاقتراحِ، دون أي شروط، أخرج أهلُ المملكةِ الأميرةَ الصغيرةَ من مخبئها، لتتولى الملك، عندما رأت البنتُ الكبيرةُ أختَها الصغيرةَ حيةً، دخلت في إغماءٍ، لفعلتِها الشنيعةِ تلك، حيث فقدت احترامَ أهل المملكة لها، وفقدت ثقةَ أختها الصغيرة فيها أيضًا، التي صارت ملكةً محبوبةً عند كلّ الناسِ.

  • اليمامة الحنونةُ

          كانت هناك فتاةٌ صغيرةٌ تسمّى حنان، ترعرعت حنان وحيدةً عند والديها. كان لوالديّ حنان منزلٌ واسعٌ ذو فناءٍ شاسعٍ، تتوسطه شجرةُ نيم ظليلةً، تمتدُ فروعُها إلى غرفِ المنزلِ وتفرشُ عروشَها عليها، لتقي حنان ووالديها حرّ الشمسِ.

          كانت هناك يمامة، آوت أيضًا إلى فناء منزل والديّ حنان الشاسعِ، وعششت فوقَ أحد فروع الشجرةِ، بعد أن بنت عشّها المنسّقَ. علمت حنان بأمر اليمامة، التي آوت إلى شجرة النيم المخضرةَ، وصارت جارةً لها، تؤنس وحدتَها وتزيلُ وحشتَها.

          فرحت حنان باليمامةِ، وذهبت إلى السوقِ، واشترت إناءً من الفخارِ، ملأت حنان إناء الفخارِ بالماءِ، ووضعته بين فروع الشجرةِ لتشرب منه اليمامةُ. صارت حنان ترمي لليمامةِ أيضًا الحبوبَ عند كل صباحٍ، لتلتقطها من الأرضِ وتأكلها.

          تعودت اليمامةُ على شربِ الماءِ من إناءِ الفخارِ ثم التقاط الحبوب من تحت الشجرةِ. بعد أن تكتفي اليمامةُ، تحط على أعلى فروعِ الشجرةِ، وترسلُ أنغامَها الطروب إلى شتى الأنحاءِ وجوانبِ المدينةِ، لتطرب حنان وأهل المدينة.

          ذات يوم عزمت حنانُ على السفرِ لزيارةِ جدّتها في القريةِ المجاورةِ. ملأت حنان إناءَ الفخارِ بالماءِ لليمامةِ، ورمت لها بالحبوبِ تحت الشجرةِ. سافرت حنان وتركت اليمامةَ وحيدةً. صارت اليمامةُ ترسلُ نغمًا حزينًا، يشب أنينًا، يظهر الحنين.

          عادت حنانُ بعد ثلاثة أيامٍ من سفرِها لزيارةِ جدتها. تفقّدت حنان اليمامةَ على الشجرةِ، التي كانت جالسةً فوقَ عشّها، نهضت اليمامةُ من عشّها، وطارت إلى أعلى فروع الشجرةِ، مرسلةً نغمًا طروبًا، يفرحُ الوجدانَ ويرقصَ الأفنانَ.

  • الرجل الأكُول

          كانَ هناك رجلٌ أكولٌ لا يشبع إذا أكل وأكل. أطلق الناسُ على الرجلِ الأكولِ اسم المنشار. كان المنشارُ لا يغيب عن الحضورِ إلى الولائمِ، إذا دُعي أم لم يدع. كان هم أهل الولائمِ دائمًا ليس إشباع الضيوفِ، بل إشباعِ المنشارِ الأكولِ.

          كان المنشارُ، الذي بإمكانِهِ التهامُ خروفٍ بأكملِهِ في جلسةٍ واحدةٍ، مقياسًا لجودة الولائمِ.

          كان المنشارُ يحكي عن الولائمِ مدة سنواتٍ، يحكي عن أحسنِ وأسوأ طعامٍ وشرابٍ، أين شبعَ وأين لم يشبع، مما جعل الناسُ يسرعون لدعوتِهِ وإكرامِهِ.

          كان المنشارُ يعملُ حسابًا لكل وليمةٍ، حيث يصوم طوال النهارِ. وفي المساءِ، يرتدي المنشارُ جلبابِه وعباءته ويضع طربوشَه على رأسهِ، ويلفُّ عمامتَه ويلبس مركوبَه (حذاءه) ويتعطّرُ ويحملُ عصاه، متوجّهًا إلى مكانِ الوليمةِ، مساهمًا ومشاركًا ومباركًا.

          كان أهلُ الولائمٍ يفتخرون بالمنشارِ، الذي بحضورِهِ تفتتحُ الولائمَ، حيث يؤتى له بأشهى طعام وأطيب شراب. في جلسةِ المنشارِ الرئيسيةِ، يأكلُ ويأكلُ حتى يتصبّبُ عرقًا وتحمر عيناه، بعدها يبحث المنشارُ عن ركنٍ لينام فيه وهو جالس.

          دعي المنشار ذات يوم إلى وليمةٍ، حيث أكلَ وأكلَ حتى نامَ، تشكّك الناسُ في أمرِ المنشارِ، الذي استلقى على الأرضِ متمددًا بدلاً عن الجلوسِ، تأكّد الناسُ من موتِ المنشارِ، حيث حملوه إلى مثواه الأخير، بعد أن تحوّلت الوليمةُ إلى مأتمٍ حزينٍ.

          في الطريقِ عاد إلى المنشارِ وعيُه، وجرى الدمُ في عروقِه وصار يتحرّك، أحسّ الناسُ بحركةِ المنشارِ، ووضعوه مذهولينَ على الأرضِ، حمل الناسُ المنشارَ فرحين إلى مكانِ الوليمةِ. وبعدها تخلّى المنشارُ عن الشراهةِ التي كادت تدفنه حيًا.

 


 

حسن إسماعيل خميس حميدة   

 




غلاف هدية العدد