عطلةُ الصيف

عطلةُ الصيف
        

رسوم: أمين الباشا

          تصعد العائلةُ كل صيفٍ إلى الجبلِ هربًا من حرّ بيروت. وتقضي الصيفَ في منزلٍ كانت تستأجره كل سنة. البيتُ مطلٌّ على بيروت، فيه غرفتان ودارٌ واسعةٌ وشرفةٌ تطل على حديقةٍ فيها شجرةُ تين وشجرةُ تفاح وأزهارٌ منوّعة زرعتها الطبيعةُ في كلِّ أنحاء الحديقةِ. وعلى رأس البيتِ قرميدٌ أحمرُ. والمدخل من ممرٍ حجري على جوانبِه بعضُ الأشجارِ، وبعضُ التنك المزروعة بالورود.

          كنا ننتظر انتهاء السنةَ المدرسيةَ حبًا بالعطلةِ وشوقًا إلى الصعودِ إلى بيتِنا في الجبلِ. لم يكن البيتُ ملكنا، لكننا اعتدنا عليه، إذ كانت العائلةُ تمضي الصيفَ فيه قبل مولدي، لهذا لا أتصوّر يومًا أن نستبدلَ البيتَ ببيتٍ آخر.

          كانت لي زاويتي في الشرفةِ، ومكاني في الغرفةِ التي كانت تشاركني فيها شقيقتي آمال، التي كانت تصغرني بثلاثةِ أعوامٍ، كنّا صديقين ولكن لابدّ من خناقٍ بيننا، ولو مرّة واحدة في النهارِ، وكان توبيخ أمي توبيخًا روتينيًا حتى أصبحنا معتادين عليه ولا يؤثّر فينا، لكنه كان يهدّئنا. وعلمت يومًا أن والدتي - رحمة الله عليها - كانت إذا لم تسمع صراخًا وخناقًا بيني وبين آمال، كانت تدخلُ علينا لتطمئنَّ إذا ما حدث لنا حادثٌ ما، لأن هدوءنا التام كان يقلقُها.

          الأيام التي تمضي دون خناقٍ بيني وبين آمال، سببه أنني كنت أسمحُ لها أن تستعملَ بعضَ أقلامي الملوّنةَ لكي ترسم بالقربِ مني وتريني ما ترسمه صارخةً بكل قوةِ صوتِها: «إنني أرسم أفضلَ منك» مع أننا كنا صغيرين ومجموعة سني عمرنا لا تتجاوز تسع سنوات.

          في ذلك الوقتِ، كانت أمي تحبُّ الطربَ كأخيها الموسيقي، وكأبي أيضًا، فكنت في ذلك الوقتِ أدندن بعضَ أغاني أم كلثوم وعبدالوهاب، وقد تربّينا على حبِّ الغناءِ الجميلِ والطربِ الصحيحِ.

          ذات صباح، عندما استيقظتُ، خرجتُ إلى الشرفةِ، وكانت بيروت ظاهرةً بكل وضوحٍ لصفاءِ الطقسِ، رأيتُ دخانًا ينبعثُ من بعضِ أحياءِ العاصمةِ، استيقظتْ والدتي وتبعها والدي وظهرَ على وجهيهِما حزنٌ وريبةٌ لم أرهما من قبل في تلك الحالةِ. سألت عن سببِ الدخان، لم أنته من طرحِ سؤالي حتى دوّت أصواتٌ، علمت أن طائرات ترمي قنابلَ على بيروت، ولأول مرّة انتابني شعورٌ بأن في الحياة سعادةً وبؤسًا، وأن هناك أناسًا لهم اسمٌ خاص هو «العدو».

          أمضينا الوقتَ بين الشرفةِ وبين سماع الأخبارِ من الراديو، أمّا أنا فبقيت على الشرفةِ أرسم، بادئًا برسمِ الدخانَ الأسودَ المتصاعد من أمكنة عدة في بيروت.

          في هذا النهار، بقيت آمال في الغرفةِ تنامُ وتستيقظُ ثم تعود للنومِ. وكان استغرابي لوجود ناسٌ يهدمون المباني ويقتلونَ الناسَ،ولم أكن أعرف سببَ ذلك.

          بعد ظهر ذلك اليوم الحزين، انتشر الدخانُ وغطّى سماءَ بيروت، واختفت عن الأنظارِ، ولم نعد نستطيع رؤيةَ ما يحدث. لكن أصواتَ القنابل مازالت تُسمع، بين الحين والحين، تلمعُ في السماء أنوارٌ وخطوطٌ حمرٌ ثم تختفي.

          بقيتُ مع والديّ على الشرفةِ إلى أن غلبني النعاسُ، دخلتُ إلى غرفتي تاركًا أمي وأبي ووساوسهما.

 


 

انجيل أوريتابيايو