البحر يرتدي قبعة الرأس الطيب.. خالد سليمان

البحر يرتدي قبعة الرأس الطيب.. خالد سليمان
        

          عندما يرتدي البحر قبعة الرأس الطيب... لابد وأن يحملنا إلى ولاية نابل ومدينتها عاصمة الوطن القبلي في بلدنا العربي الشقيق تونس «الخضراء»، وهذه البقعة الساحرة تمتد كذراع طويلة تنتهي برٍأس بيضاوي، إلى حد ما، داخل البحر المتوسط، ولهذا كان الفرنسيون يطلقون عليها «القبعة».

          - بعد مسيرة نصف ساعة فقط من العاصمة في اتجاه الشمال الشرقي نصل إلى منطقة «الرأس الطيب» أو ولاية «نابل» حيث مياه المتوسط الزرقاء والمناخ المعتدل مع انعدام كل العوامل الملوثة للبيئة فضلاً عن الخضرة التي تعانق البحر على مدى البصر تفوح بروائح الزهور والفل والياسمين.

          - في هذه البقعة الفردوسية التي تمتد كيدٍ بلون السلام الأخضر داخل البحر كأنها تصافح العالم الغربي حيث تبعد عنها شواطئ جزيرة «صقلية الإيطالية» مائة وأربعين كيلومترًا، استقر الأندلسيون منذ القرن الرابع عشر الميلادي بعد سقوط الأندلس «فردوس العرب المفقود»، وكأنهم اختاروا فردوس الرأس الطيب ليهاجروا إليه عوضًا عن فردوسهم المفقود الذي أضاعوه بتفرقهم وصراعاتهم، ولعل ذلك يكون درسا لنا جميعًا.

          - كما تشتهر منطقة الرأس الطيب بإنتاج أجود أنواع الحمضيات كالبرتقال والليم والليمون فضلاً عن الرمان والعنب، ومن أشهر أنواعه العنب المسكي الذي تنتجه مدينة «قليبية» أحد موانئ الصيد المهمة في تونس، والتي تلعب أيضا دورًا ثقافيًا مهما حيث تحتضن سنويًا أحد أهم مهرجانات السينمائيين الهواة.. ولهذه المدينة ينتمي أحد السياسين العرب البارزين «الشاذلي قليبي» الذي شغل في السابق منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية.

          - ولابد لكي تصل إلى مدينة قليبية أن تمر بـ «منزل تميم» والتي تعود تسميتها إلى قبيلة «تميم» العربية الشهيرة التي قدم بعض أبنائها مع جيوش الفتح العربي الإسلامي واستقروا بهذه المنطقة الساحرة التي يلتحم بساطها السندسي الأخضر بزرقة البحر في مشهد أخاذ حيث ترى أشجار الحمضيات القاتمة الخضرة والمرصعة بالثمار البرتقالية والصفراء تميل برؤوسها كأنها تهمس لمياه البحر الزرقاء.

          - وبالقرب منها قرية «الهوارية» التي تشتهر برياضة الصيد بالصقور حيث يقام مهرجان سنوي لهذه الرياضة يتبارى فيه محبو تلك الرياضة، كما تنظم هناك المعارض والمحاضرات للمهتمين بتلك الرياضة، ويرجع اسم هذه القرية أيضًا إلى إحدى القبائل العربية التي نزلت بها مع جيوش الفتح واتخذتها مستقرًا لها.

          - وفي مدينة «قرية» الصغيرة يقام سنويًا مهرجان المسرحيين الهواة وسط الطبيعة الرائعة.

          - ثم نصعد إلى الجبل الذي تحفه الغابة لنصل إلى قرية «قربص» الجميلة التي يحتضن جبلها الأخضر البحر مطلا من بعيد على الخليج التونسي.. لنصل إلى محطة متكاملة للعلاج الطبيعي حيث تتفجر العيون بالمياة المعدنية الساخنة، وكل المبانى والبيوت في قربص على الطراز الأندلسى الجميل.

          - وفي الطريق إلى مدينة «نابل» تمر بمنطقة «قرمبالية» الفلاحية الوادعة والتي تنظم سنويا مهرجانا فلاحيا مهمًا.

          - هانحن نقترب من الوصول إلي «نابل» العاصمة الإدارية «للوطن القبلي» أو «الرأس الطيب» مرورًا بضاحية «بني خيار» التي تشتهر بالنسيج الصوفي المتميز والحياكة، ثم ندلف إلى «نابل» ونمر بميدان فسيح يتوسطه أصيص ضخم غرست فيه شجرة بديعة من الفصيلة الصنوبرية احتفالا باستقلال تونس عام 1956، وقد تعدى ارتفاعها اليوم ثلاثين مترا لتضفي على المكان بهجة على بهجة.

          - ويطلق عليها الأشقاء في تونس شجرة الاستقلال، والأمر الذي يستحق الإشارة إليه أيضًا أن هذا الأصيص البديع هو من صنع أبناء «نابل»، التي تشتهر بصناعة الخزف والجليز والمنسوجات «النباتية» كالسلال والتحف المصنوعة من ألياف التيل والحلفاء والصفصاف، كما تشتهر بنسج السجاد والنقش على الحجر «نقش حديدة»، وإنتاج زيوت الياسمين والزهور ونباتات أخرى تصدر للأسواق العالمية لصناعة العطور. وسوق الصناعات التقليدية الرائع هناك من أهم المزارات السياحية في تونس وهو مفخرة لتلك المدينة التي تحتل صفحة مهمة من أهم الصفحات في سجل التراث التونسي.

          - أما درة التاج وواسطة العقد في «الوطن القبلي» أو «الرأس الطيب» الذي يعني إداريًا ولاية «نابل»، فهى مدينة الحمامات، ذلك الثغر البحري البالغ الروعة، التي حباها الله بأحد أجمل الخلجان على المتوسط «خليج الحمامات» ذي المياه ذات الألوان الساحرة حيث تشاهدون أصدقائي كل درجات اللونين الأخضر والأزرق، فمن الأخضر الفاتح نتدرج إلى أن نصل إلى الزرقة الداكنة في اندماج بهيج للألوان، ثم تستحيل مياه خليج الحمامات إلى اللون الذهبي قبل الغروب بوقت قصير.

          - ومدينة الحمامات تشتهر بأماكن التصييف والرياضات البحرية، فضلا عن سوق متنوع للمنتجات التقليدية خلف الأسوار العتيقة التي يحرسها برج أثري منيع، وعلى مرمى البصر المدينة ناصعة البياض التي تشكل مع زرقة البحر تناغما رائعا في الألوان.

          - ودائما ما كان «للرأس الطيب» أو ولاية «نابل» دور ثقافي مهم في تونس وما حولها. وكانت مدنها وحتى قراها تشكل مراكز إشعاع ثقافي متفاوتة التأثير محليًا وإقليميًا، إلا أن مدينة الحمامات أخذت زمام المبادرة لكى يكون «للرأس الطيب» دور عالمي متميز في ميدان الثقافة. فمنذ القرن الماضي أنشئ «المركز الثقافي الدولي بالحمامات» وسط غابة خضراء في منطقة جبلية منحدرة ومتاخمة للبحر، ليحتل المركز مكانًا بالغ الروعة وكأنه عالم أسطوري.

          - ويحتوى «المركز الثقافي الدولي بالحمامات» الذي تنظم به عدة مهرجانات سنوية أشهرها المهرجان الصيفي على عدة قاعات عرض: الفنون التشكيلية، والندوات، ومراسم للفنانين فضلا عن الغابة والشاطئ اللذين يعتبران مرسمًا طبيعيًا في الهواء الطلق، كما أن بالمركز أماكن بديعة لإقامة الفنانين والضيوف، ومطعمًا وكافيتريا لخدمة المقيمين والرواد، هذا بالإضافة إلى مسرح «رومانى» في الهواء الطلق يسع ألفًـا ومائتي متفرج، وقد استقبل المركز كثيرًا من الكتاب والشعراء والفنانين والسياسيين ما بين زوار أو مقيمين لعل أشهرهم رئيس وزراء بريطانيا الأسبق «تشرشل» والكاتب الشهير «أوسكار وايلد» والكاتب الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الأداب «أندريه جيد»، والنجمة السينمائية اللامعة «صوفيا لورين»، وقد اختير هذا المركز أفضل مركز ثقافي دولي في البحر المتوسط.

رياضة الصولجان (الجولف) فى الحمامات:

          - وتشتهر مدينة الحمامات بميادين رياضة الصولجان (الجولف) ومن أشهر هذه الميادين «صولجان الياسمين» الذي توجد به مدرسة لتلك الرياضة وهو من تصميم المهندس العالمى «رونالد فريم»، و«صولجان السيتروس» وبه مدرسة متخصصة فى تلك الرياضة أيضًا.

          - قبل الخروج من مدينة الحمامات لا ننسى شراء كمية من العطور المنتجة محليًا طبقا للطريقة التونسية القديمة التي توارثت صناعتها أجيال وأجيال منذ عصور موغلة في القدم.

          - وفي طريق عودتنا مرة أخرى إلى العاصمة لا ننسى المرور بقرية «سليمان» الأندلسية التي استقر بها المهاجرون الأندلسيون منذ القرن الرابع عشر الميلادي بعد خروجهم من «الأندلس»، ولابد أن يلفت نظر الزائر لمنطقة «سليمان» الزى الأندلسي المميز لأهلها الذي يتشابه في بعض تفاصيله مع زي أشقائهم المصريين من أهالي مدينة «مرسى مطروح» «شمال غرب مصر»، كذلك يتشابهون في بعض أغانيهم وموسيقاهم ومأكولاتهم، وتعد «سليمان» هى العاصمة الأندلسية لمنطقة الشمال الشرقي التونسى.

          - مهما تحدثنا على «الوطن القبلي» أو «الرأس الطيب» ولاية «نابل» فنحن لم نذكر لكم، أعزائي العرب الصغار، إلا أقل القليل، فما بالكم بكل بقاع وطننا العربي الكبير... إن هذا التنوع والثراء الشديد في وطننا الكبير يغنينا بحق عن الذهاب إلى أوربا وأمريكا وشرق آسيا للسياحة، بينما نمتلك نحن كل هذا الجمال والأجمل من ذلك أننا نتكلم لغة واحدة نفهمها جميعا هى العربية لغة القرآن الكريم، إذن هيا بنا أعزائي العرب الصغار ننطلق معًا لنتعرف إلى وطننا الكبير أولاً.. هيا بنا إلى القاهرة أو الكويت أو دمشق أو الرياض أو بيروت أو الدوحة أو الخرطوم.

 


 

خالد سليمان