العالم يتقدم

العالم يتقدم
        

«مجهر» فضائي... لكشف أسرار الشمس

          إذا نظرت إلى الشمس عند الشروق أو الغروب، لتصوّرت أنها هادئة ساكنة وادعة، ولكن هذا مجرد «خداع بصر»، بسبب بعدها الكبير عنا (150 مليون كيلومتر). والواقع أن الشمس نجم ثائر ومحيط رهيب من اللهب المتلاطم، حيث تنطلق منها ألسنة هائلة تمتد لعشرات الآلاف من الكيلومترات في الفضاء، كما أنها مسرح لأشد أنواع الدوّامات الجبّارة والأعاصير والعواصف المغناطيسية، وكان لابد من إرسال عدد من المركبات الفضائية... لكشف أسرار الشمس أقرب النجوم إلينا.

انفجارات... وإشعاعات... وجسيمات

          ومن بين أهم تلك المركبات الفضائية الاستكشافية «هينود» - التي تعني «شروق الشمس» باللغة اليابانية، والتي أطلقت في سبتمبر 2006. وهذه المركبة الفضائية التي صممتها وكالة الفضاء اليابانية، قد شارك فيها من الناحيتين العلمية والهندسية كل من الولايات المتحدة وبريطانيا بشكل أساسي، وتحمل المركبة «هينود» أجهزة حديثة عدة وبالغة الدقة، منها مرقب بصري شمسي، وآخر يعمل بالأشعة السينية - وهي أشعة كهرومغناطيسية نفّاذة - ومقياس للطيف الذي يعمل بالأشعة فوق البنفسجية، وهي أشعة غير مرئية أهم مصادرها الشمس، بالإضافة إلى كاميرات رقمية عدة متطورة.

          والمركبة الفضائية «هينود» تشبه أساسًا مجهرًا فضائيًا، إذ يمكنها تقصّي أدق تفاصيل الظواهر الغريبة التي تحدث في الشمس، سواء عند سطحها (حيث درجة الحرارة نحو 6000 درجة مئوية) أم في أعماقها (حيث تصل درجة الحرارة إلى عشرين مليون درجة مئوية). ومن أهم الظواهر الشمسية، تلك الانفجارات الهائلة، التي تحدث في «جو» الشمس، والمعروفة باسم «التأججات الشمسية». وهذه الأحداث المدهشة المثيرة، تطلق كميات جبّارة من الطاقة في بضع دقائق فقط، تساوي تلك عشرات الملايين من أقوى القنابل التي عرفها الإنسان!

          وهذه التأججات الشمسية - التي هي عبارة عن انفجارات هائلة للهيدروجين والهيليوم الموجودين فوق الشمس - يمكنها إطلاق إشعاعات وجسيمات ذات سرعات هائلة تصل إلى ألف كيلومتر في الثانية، باتجاه كوكب الأرض، مما يؤدي إلى تلف الأجهزة الإلكترونية للأقمار الصناعية والإضرار بصحة روّاد الفضاء، والتأثير في شبكات نقل الطاقة الكهربائية بالإضافة إلى إحداث اضطرابات في الاتصالات الهاتفية واللاسلكية، ولكن ما الذي يسبب التأجج الشمسي وفق أحدث المعلومات العلمية من المركبة الفضائية «هينود»؟ تسألني فأجبك: إن الشمس - مثلها مثل الأرض - تولّد مجالاً مغناطيسيًا يمتد حولها في الفضاء. إلا أن المجال المغناطيسي للشمس يتغير من حيث شكله وشدته على طول سطح الشمس وعبر الزمن، بسرعة أكبر مما يحدث فوق كوكب الأرض. لكن لماذا يحدث هذا؟ علينا أن نعرف بعض المعلومات العلمية الحديثة، عن كيفية عمل المجال المغناطيسي الشمسي، لمعرفة كيف تسبب تلك التغيرات حدوث ظاهرة أخرى غريبة تحدث فوق سطح الشمس هي «البقع الشمسية»، وقد قام المجهر الفضائي «هينود» بدراستها بالتفصيل وكشف أسرارها المثيرة.

البقع الشمسية... والمجالات المغناطيسية

          هل صنعت في يوم ما مغناطيسًا، بلف سلك ما حلزونيًا حول مسمار، ثم وصّلت طرفيه ببطارية؟ إن هذه التجربة تنجح، لأن الإلكترونات المتحركة - التي هي عبارة عن تيار كهربائي يسري في السلك الملفوف - تنشئ مجالاً مغناطيسيًا، وتتغلغل خطوط هذا المجال في السلك والمسمار، ومن ثم يصبح هذا المسمار مغناطيسًا. وما يحدث في الشمس هو شيء مشابه لذلك. ففي الشمس هناك تدفقات دائمة من «البلازما» الساخنة.

          والبلازما هي سحابة من غاز ساخن بها كثير من الجسيمات المشحونة الحرة «إلكترونات وبروتونات». والشحنات المتحركة هي تيار، وهو الذي ينشئ مجالات مغناطيسية، تمامًا مثل التيار الكهربائي المار في السلك الملتف حول المسمار.

          ولكن ما المختلف في الشمس؟ البلازما هنا تسببها الحرارة الناتجة عن الاندماج النووي في الشمس، حيث يتحول الهيدروجين إلى هيليوم، وليست البطارية كما في حال السلك والمسمار. وقد تمكنت المركبة الفضائية «هينود» من رصد البقع الشمسية بدقة بالغة. والبقع الشمسية هي مناطق داكنة وسط سطح الشمس المضيء، تتخذ شكلاً واضحًا: فهناك منطقة مركزية تسمى «شبه الظل».

          والبقع الشمسية مناطق ذات مجالات مغناطيسية قوية للغاية، حيث تتجمع خطوط هذه المجالات التي تنتشر خلال السطح، وتنشئ معها بعض البلازما الساخنة في قوس هائل وحلقات جبارة. ونحن نرى نهاية كل حلقة، كبقعة شمسية على السطح المرئي للشمس. وفي الدوامة الحادثة فوق بقعة شمسية، تلتوي وتستطيل خطوط المجالات المغناطيسية، حتى يصل فيها «الشد» إلى حد معين، وعندئذ تنفجر الدوامة بأكملها.

زلزال... شمسي

          هناك ظاهرة أخرى مثيرة رصدها المجهر الفضائي الياباني «هينود». فقد كشف عن زلزال شمسي، انتشرت منه «موجات» مدمّرة في كل أرجاء الشمس، إلا أن أحدًا على الأرض لم يشعر بأدنى اهتزاز، والسبب أن الزلزال حدث على سطح الشمس.

          فما الذي سبب هذا الزلزال الشمسي؟ اتضح أن الزلزال الشمسي، أحدثته المقادير الهائلة من الطاقة المنطلقة من تأجج شمسي جبار انفجر أخيرًا في الشمس. ونتجت عنه «موجات» من اللهب ارتفاعها أكثر من ثلاثة كيلومترات فوق سطح الشمس، وانتشرت لعشرات الآلاف من الكيلومترات. ولنأخذ مثالاً يوضح هذا الأمر. خذ حلقة مطاطية من مكتبك، وامسك أحد طرفيها بكل يد من يديك.

          مطّ الحلقة ولفها مرات عدة إلى آخر مداها. وسوف ترى أن الحلقة المطاطية المتوترة سوف تنفلت في النهاية، محررة كل «الطاقة» التي وضعتها فيها نتيجة لفّها.

          إن المجالات المغناطيسية التي تحدث التأججات الشمسية والبقع الشمسية، تتصرف إلى حد كبير مثل الحلقات المطاطية. ويأمل الخبراء في أن يساعد هذا التسجيل للزلزال الشمسي بواسطة المركبة الفضائية «هينود» - الذي يعد الأول من نوعه - والبحوث العلمية المترتبة عليه، في التنبؤ بالتأججات الشمسية قبل وقوعها، ومن ثم تلافى أضرارها علينا.

          إن الشمس مازالت لغزًا غامضًا، ومن ثم يصمم العلماء المزيد من المركبات الفضائية الأكثر تطورًا، لتنطلق في المستقبل القريب إلى الفضاء لدراسة كل الظواهر الشمسية بأعلى دقة ممكنة.

 


 

رءوف وصفي