في قريتنا التراثيّة

في قريتنا التراثيّة
        

          أخيرًا اقترب يوم ذكرى مولدي العاشر، لقد وعدني أبي أننا سنحتفل بالعيد في قريتنا.

          أليس كذلك يا أمّي؟!

          - نعم سنذهب إلى «الضيعة» (القرية) ونقيم عدّة أيّام هناك، ها قد عاد أبوك من عمله يا سامر.

          - مرحباً يا أحبائي، ما أجمل الاجتماع بهذه الوجوه الطيّبة بعد عمل شاق وطويل!

          عندها هتف سامر قائلاً: والأجمل منه إذا اتّسع اللّقاء ليشمل أقاربنا أو كما تسمّيها أنت «عائلتنا الكبيرة ».

          - أحسنت يا سامر، أعتقد أنّك تلمّح إلى شيء!.. لا تخف «وعد الحر دين عليه» هذه حكمة علّمني إياّها أبي والآن أريدك أن تتعلّمها قولاً وعملاً. هيّا تحضّروا للرحلة في الغد.

          - ولماذا تسمّيها رحلة؟ فمسافة الطريق بين بيروت والجبل (حيث ضيعتنا) ليست أكثر من 70 كلم، أي نستطيع أن نقطعها في مدّة ساعة ونصف الساعة.

          - كما تشاء سمّها نزهة إلى أحضان الطبيعة.. عندك حق يا بنيّ لقد مللنا الأبنية الشاهقة والضجيج، وزحمة السيّارات. كم هي غنيّة زيارة ضيعة تراثيّة مثل ضيعتنا!

          وفي الغد، جهز الجميع أمتعتهم وانطلقوا من الطريق الساحليّة شبه المستقيمة إلى الطرق الملتوية كثيرة المنعطفات، ما أزعج «سونة» الصغيرة أخت سامر وأجبر الأب على خفض السرعة إلى حدّها الأدنى.

          بدأت القرى اللبنانيّة الجبليّة شبه المتّصلة تطلّ، يمرّون بها كشريط مصوّر، وبعد دقائق أطفأت أم سامر مكيّف الهواء وفتحت النوافذ لأن الارتفاع عن سطح البحر أصبح أكثر من ألف متر، فالحرارة معتدلة، والنسمة الرقيقة تلفح الوجوه المأخوذة بالجو البديع.

          - أهلاً بك بيوت ضيعتنا المعتمرة قبعات حمراء «كالطربوش التركي» صاح سامر، وضحكت سونة لطرافة الوصف للقرميد المعتلي البيوت الحجريّة القديمة.. ركن أبو سامر السيّارة أمام المنزل وقال: مفاجأة لكم، رمّمنا البيت وها قد عاد كما كان عندما بُني منذ مئة عام.

          -  يا للروعة! وكيف ذلك ؟! تعجّب سامر وسونة من هذه الحلّة الجديدة.

          ردّ الوالد: سيشرح لكم جدّكم الأمر بعد أن نسلّم عليه..

          وهكذا صار ، استعاد الجد ذكريات منزله الجميلة، الّذي ورثه عن أبيه قائلاً : بنى أبي هذا المنزل في بداية القرن الماضي ـ أي القرن العشرين - ومازال على حاله. وكان حلمي أن يبقى  لكم كما هو فأردت أن أرمّمه، تسألونني كيف؟.. فأنا «معلّم تقصيب حجر»،  هذه مهنتي تعلّمتها من والدي، كلمة جديدة عليكم، أعرف ذلك، لأن هذا العمل الشّاق أصبح نادراً اليوم، والبيوت الحجريّة الحديثة  الّتي تشاهدونها أصبحت تُعمّر بحجارة الباطون (الإسمنت) ويُلبّس الحجر المنشور عليها. صار المعلّم يقتصر عمله على نشر الحجارة بمنشار خاص وتلبيسه كقميص للبناء.

          - وكيف كان التقصيب؟  سأل سامر.

          - كنّا نقتلع الصخور من أرضنا الجبليّة وبالإزميل والمطرقة نسوّي الحجر الصخري فزنودنا (موصل الذراع في الكتف) المفتولة تساعدنا. وهذا القرميد الأحمر الجميل المصنوع من الصلصال (الطين)  يُصنع ويُشوى في أفران خاصّة، تماماً مثل الأواني الفخّاريّة.

          - لم تقل لنا يا جدّي كيف عاد المنزل «كالعروس»؟

          - أوه يا أولاد مع الوقت يتراكم الغبار والأتربة على الحجارة كما أن المطر يتفاعل مع الكلس فيغيّر من حالها، نظّفناها بواسطة رش الرمل عليها بضغط قوي فعادت نظيفة وبيضاء، والقرميد الّذي بهُت طليناه من جديد وما انكسر أُصلح.. والباقي عليكم..

          - والآن لنمض ِ«السهريّة» (السهرة) على «السطيحة» (سطح الدار أمام المنزل) تحت السنديانة ـ تذكّروا أنّها كانت موجودة قبل البيت اعتنوا بها، هذه وصيّتي لكم.

          - اشتقنا يا جدّي إلى كلماتك فللقرية قاموس للمفردات خاص بها.

          - وفيها أيضاً مأكولات  مميّزة أعتقد أنّكم نسيتموها في مدينتكم. سأعوّضكم عن السكاكر المصنّعة بالدبس والطحينة، الزبيب، التين اليابس، والعسل مع الجوز والصنوبر.. هيّا القمر ينادينا.

          تسامر الجميع تحت ضوء القمر، والسنديانة العتيقة وتداوروا «قرعة المتّة » (شراب مر معروف في الريف اللبناني)، الشراب المفضّل في ضيعتهم التراثية.

 


 

سمية عزام