كان ياما كان... حكايات الألوان

كان ياما كان... حكايات الألوان
        

الحكاية الأولى: الأزرق

تشكيل: نجاح طاهر

          ما الشيء الذي أينما التفتنا نراه؟

          هذه أحجية سهلة ولاشك أنكم عرفتم أن الحل هو «اللون».

          لكل شيء لون، عدا الهواء والماء وبعض الأشياء  المجردة، لكن لون الماء يبدو أحمر إذا وضعناه في كوب أحمر، وأسود إذا ذوّبنا فيه حبرًا أسود.

          لكن هل تساءلتم يومًا لماذا اللون الأحمر في إشارة المرور يعني قف والأخضر يعني تقدّم؟

          لماذا ملاعب كرة القدم خضراء، وملابس الأطباء بيضاء، وملابس الحداد سوداء؟

          هذه أسئلة قد تدفعنا إلى التفكير في معاني الألوان ورموزها وحكاياتها، وقد تولد لدينا أسئلة أخرى مثل:

          من أين تأتي الألوان؟

          كيف اكتشفها الإنسان القديم وكيف طوّرها عبر العصور؟

          كيف استخرجها وكيف استعملها؟

          لماذا هناك لون لكل مناسبة ولكل وظيفة؟

          لماذا تفضّل البنات الوردي بينما يفضّل الأولاد الأزرق؟

          إذا كانت هذه الأسئلة قد أثارت اهتمامكم، فإن مجلة العربي الصغير ستقدم لكم الأجوبة عبر سلسلة من «حكايات الألوان» تستند إلى دراسات لأستاذ التاريخ والفن «جاك باستورو»، الذي كرّس جهوده للبحث في تاريخ الألوان ونشر أبرز ما توصل إليه في مجلة «الأكسبرس» الفرنسية.

          البداية ستكون مع اللون الأزرق. 

  • أزرق الصفاء والسلام والحضارة

          - الفراعنة أول من عشقه

          لم يكن اللون الأزرق محبوبًا عند الإنسان القديم، والدليل أنه نادر الوجود في رسومات الكهوف الأولى، تحديدًا في أوربا. وحدهم الفراعنة كانوا يحبونه وهم أوّل من تفاءل به، وقد وجدت الأحجار الزرقاء والفيروزية بكثرة بين مقتنياتهم.

          في الغرب بقي الأزرق منبوذًا وقتًا طويلاً، اعتبره الرومان لون البرابرة، غير المتحضرين، حتى أن الأوربيين لم يعتبروه لونًا كالأبيض والأحمر والأسود.

          - لون السماء والنبلاء

          بعد انقضاء العصور الوسطى تغيّر كل شيء!

          شهد القرنان الثاني عشر والثالث عشر تكريس اللون الأزرق، بسبب التغيير الذي لحق بالأفكار الدينية والعقائدية التي صارت ترى أن النور هو... «الأزرق»! ولأول مرة لوّن الرسامون السماء في لوحاتهم بالأزرق، بعدما كانوا يلوّنونها بالأسود والأحمر والذهبي والأبيض.

          صارت نوافذ الكنائس تطلى بالأزرق، كما كثر استخدامه في الرسوم الدينية، تحديدًا لثوب «مريم العذراء».

          ثم انتقل عشق الأزرق إلى ملك فرنسا. الملك فيليب أوغيست وابنه الصغير سان لويس كانا أول من تبنّاه، فارتديا الملابس الملوكية الزرقاء، تبعهما النبلاء، وخلال ثلاثة أجيال أصبح الأزرق موضة الأرستقراطيين. وحينها برز تعبير «أصحاب الدماء الزرقاء» الذي يرمز إلى النبلاء والطبقة الراقية.

          - الأزرق يتفوق على الأحمر

          كان الأحمر في طليعة الألوان حين كان الأزرق منبوذًا. لذلك نشبت منافسة قوية بينه وبين الأزرق الصاعد. لكن الأزرق تابع تقدّمه.

          نهاية القرن الخامس عشر حدثت موجة ضد بعض الألوان الزاهية وفي طليعتها الأحمر، هذه الحملة جعلت الأزرق لونًا رصينًا، في ما بعد تعزّز هذا الأمر وتمّ تخصيص الأسود والرمادي والأزرق للذكور، ومازلنا نرى تأثير تلك الفكرة إلى اليوم، حيث ترتبط ملابس الذكور باللون الأزرق ومشتقاته.

          مطلع القرن الثامن عشر اخترع صيدلي من برلين، مصادفة، أزرق بروس الشهير «blue de Pruss»، الذي أعطى الملوّنين تدرجات غامقة كثيرة للأزرق.

          - أزرق الجينز

          وفي القارة الأمريكية ظهر الأزرق النيلي (indigo) وانتشر في العالم، جاعلا من الأزرق موضة في جميع المجالات: الملابس والديكور والمفروشات والحلي.

          عام 1850 ظهر لباس أعطى الأزرق ذروة مجده وهو «الجينز» وهو لباس رعاة البقر في أمريكا الشمالية، وكان يتميز بقوته وتحمله لمشاق حياة الرعيان. لكن يبدو أن معظم الأمريكيين أحبّوا الجينز وتبنّوه، فصار عام 1930 لباس أوقات الفراغ بعدما كان قد اخترع لأوقات العمل تحديدًا. كما صار لباس التمرّد في الستينيات.

          - الأول بلا منازع

          تبنّى أبطال الرومانسية الأزرق (ويرذر بطل رواية «آلام ويرذر» للكاتب والشاعر الألماني غوته مثلا كان الأزرق لونه المفضل ورمز رومانسيته ومشاعره)، فقلّده الشبان الأوربيون. كما أن موسيقى البلوز العاطفية الحزينة تستمدّ اسمها من اللون الأزرق.

          بعد الحرب العالمية الأولى صار الأزرق رمزًا للحماية الدولية، ثم اللون الرسمي للأمم المتحدة، واليوم صار أيضًا لون الاتحاد الأوربي والأونيسكو، فقد رأت المؤسسات الدولية فيه رمزًا للسلام والوقار والالتزام بالقضايا الإنسانية.

          عام 1890، في استطلاع للرأي، تبيّن أن الأزرق هو اللون الأول في الغرب، ويتوقع أن يبقى في السنوات الثلاثين القادمة على الأقل اللون الأول.

 


 

ترجمة وتقديم : بسمة الخطيب