إلى الحياة الجميلة

إلى الحياة الجميلة
        

رسوم: رانيا أبو المعاطي

          أعرفه جيدًا، مثلما أعرف أبي وأمي وأخي. ففي كل صباح، يفتح نافذة غرفته الصغيرة، على ساحة الحي النظيفة، يُحدَّق طويلا في عيون أصدقائه الأطفال، ويستمتع بضحكاتهم وصيحاتهم، وهم يلعبون الكرة:

          - هاتها، يا كريم.. اقذفها، يا سمير.. لا تتركها تنفلت من رجليك، يا علي.. سجِّل الهدف، سجِل الهدف، يا أحمد، قبل أن يأخذها منك العفريت سعيد.. يا لك من لاعب ماهر!.. لقد ربحنا المباراة، ربحناها..!

          كم أَحَب أن يكون بينهم، يقذف الكرة مثلهم، مرة برجله، ومرة برأسه، ليسجل هدفا.

          منذ سنتين، كان يلعب معهم بحماسة، ويصحبهم إلى النزهة في حديقة (جنان السبيل) فيسليهم بنكته، ويدهشهم بقصصه، ويطربهم بأغانيه. أما الآن، فإنه ينزوي وحيدًا فريدًا في هذه الغرفة، يكتفي بإطلالة الصباح!

          رفع سمير رأسه، ونظر إليه قائلا:

          - أهكذا، يا ربيع، تتخلى عنا بسهولة؟!.. لماذا لا تلعب معنا، كما كنت تفعل من قبل؟!.. لماذا لا تصحبنا إلى الحديقة، فتسلينا بنكتك وقصصك، وتطربنا بأناشيدك؟!

          هناك، هناك كنا نُرَفِّه عن أنفسنا، فنصيد الفراشات والعصافير، ونشم الزهور والورود العبقة بأريجها الذكي.

          انفرجت شفتا ربيع عن ابتسامة عريضة، وقال بصوت حزين:

          - لو كنت أقدر أن أجري وأقفز وألعب، أو على الأقل، أمشي على رجلي، لفعلت ذلك، منذ شهور!

          تلألأت عينا سمير:

          - بل تستطيع أن تمشي، وتجري حتى أكثر من القطار المكوكي!

          ضحك ربيع من كلامه، وقال بسخرية:

          - ولماذا لا تقول أكثر من الصاروخ؟!

          يوما ما، كان ربيع مستلقيا على فراشه وعيناه مشدودتان إلى السقف، فظهرت له الثريا المتدلية بمصابيحها المضيئة، نجوما سابحة في السماء الصافية. والسرير الذي يتمدد فوقه، مركبة فضائية، تنتقل به من هذا النجم إلى ذلك، ومن هذا القمر إلى آخر.

          فجأة، سمع صفيرًا قويًا، فأطلّ من نافذته، إذ بصديقه سمير يضع أصبعيه في فمه، ويُفرِّق بهما ما بين شدقيه، ويصفّر باسمًا:

          - اِلبس ثيابك بسرعة، فأصدقاؤك سيحضرون حالًا ليأخذوك إلى (جنان السبيل) الحديقة الغناء!

          خفق قلب ربيع بهذا الخبر السار، فارتدى ثيابه، وانتعل حذاءه. ثم هبط السلم ببطء شديد، درجة درجة، كأنه صبي صغير السن، يحبو على يديه ورجليه، أو شيخ هرم في خريف العمر، يخطو بحذر متثاقلا.

          وأمام باب منزله، وقف ينتظر أصدقاءه، متكئا على رجله الثالثة، عفوا، أقصد العكاّز!

          أجل، يا أطفالي، ما زال ربيع يتذكر ذلك اليوم البعيد البعيد، بل يذكر الحادثة، كما لو كانت وقعت الآن: حين دقت الساعة المنبهة الثامنة صباحًا، نهض من نومه، وقفز من فراشه كالأرنب. ودون أن يغسل وجهه، أو يرتدي لباسه، نزل من غرفته بسرعة البرق، وأمه تصيح بأعلى صوتها:

          - احذر، يا بني، ان تعثر فتقع من على السلم!

          فرد عليها بعناد:

          - لا تقلقي عليّ، أنا لم أعد طفلا صغيرا، أعرف ما ينفعني وما يضرني.

          وما كاد يصل آخر درجة من السلم، حتى أطلق صرخة عالية:

          - آي، آي، رجلي، رجلي!.. انفذوني، أغيثوني!

          أحست أمه المسكينة بجسمها كله يتجمّد، وقلبها الحنون يقفز من بين ضلوعها، وهي تقبل عليه باكية:

          - ولدي، كبدي، ماذا أصابك؟!.. مم تشكو؟!.. قل لي، قل لي بسرعة!

          أجابها بعينين تفيضان دموعا:

          - تلكأت رجلي، فوقعت على وجهي!

          - لهفي عليك، يا بني!.. ما كنت لتنزل الدرجات سريعًا!

          منذ ذلك اليوم، وربيع يستعمل العكاز، ذهابًا وإيابًا، لا يستغني عنه لحظة. ولا يستطيع أن يلعب ويجري ويقفز ويتريض في المدرسة أو النادي، ولا حتى يمشي، كما كان من قبل!

          لقد صار ربيع، الطفل النشيط، بين عشية وضحاها، مثل بلبل حُبِس في قفص، لا يقدر أن يطير أو يغرد، فلابد من (عصا سحرية) تكسر عيدان القفص، حتى ينطلق حرا إلى البساتين ليطربنا بأغرودته العذبة.

          والعصا السحرية التي ستعالج ربيعا من إعاقته، هي هؤلاء الأصدقاء الأوفياء. هاهم يحيطون به، كأنهم أسراب من العصافير الوديعة:

          - أشكركم جزيلا على حبكم الكبير لي وعنايتكم الفائقة بي. لكن، لا أستطيع أن أصحبكم إلى (جنان السبيل) لألعب معكم، فأنا عاجز تمامًا عن الجري والقفز مثلكم.

          صاحوا بصوت واحد:

          - لن نذهب من دونك، أو نتخلى عنك. يجب أن تعلم أنك طفل، لاتزال الحياة أمامك طويلة. ستشفى وتنسى أنك كنت معاقا. وسيعود كل شيء جميلا، وترفل في الخير والهناء والصفاء، إنْ قريبًا وإن بعيدًا. لا تنقصك الآن إلا الثقة بالنفس، فاترك عنك الشعور بالعجز والخوف والقلق، وتحلَّ بالصبر والنشاط والشجاعة والأمل. ولا تنس، يا صديقي، أن من حقك علينا أن نشركك في أنشطتنا الرياضية والترفيهية والتثقيفية، وتمارس ميولك وهواياتك، كي تصبح مواطنًا ناجحًا في وطنك العزيز. كما لا ينبغي أن يخطر ببالك يوما أنك بلا صديق ولا رفيق، فنحن جميعا سنظل رفقاء أوفياء لك، في السراء والضراء.

          أحسّ ربيع بخفة تشبه (الفرحة) وهو يصغي إلى سمير، وبدا له أنه عصفور كبير، يرفرف بجناحيه، فألقى بالعكاز أرضا، وأطلق رجليه للريح، يركض كأنه حصان. بينما ظل الأصدقاء في مكانهم والدهشة تستولي عليهم. ثم لم يلبثوا أن انطلقوا وراء الحصان يركضون في سرور كبير!

          لقد كان حبهم لصديقهم، وعنايتهم به، عصا سحرية، أنقذته من إعاقته.

          إن كثيرا من المعاقين، لا ينقصهم إلا الحنان والرفقة الطيبة، فهما البلسم الشافي لما يحسون من أحزان وآلام، فلنكن خير الرفقاء لهم.

 


 

العربي بنجلون