العالم يتقدم.. الرقص.. لغة النحل

العالم يتقدم.. الرقص.. لغة النحل
        

          أغمض عينيك قليلاً وتخيل نحلة عسل تغادر خليتها التي تتكون من عدد هائل من العيون السداسية صباح أحد أيام الربيع المشرقة لتستكشف المنطقة حولها، إلى أن تلاحظ حقلًا مملوءًا بزهور جديدة متفتحة، وهي تعلم أن الغذاء الموجود في خليتها والمتكون من رحيق الزهور وحبوب اللقاح والذي استمرت نحو ثمانين ألف نحلة - من ملكة وذكور وشغالات - في التغذي عليه طوال موسم الشتاء، قد نقص كثيرا ولكن في هذا الحقل ترى تلك النحلة المستكشفة مصدرًا جديدًا للغذاء، وعلى ذلك فإنها تسرع بملء بطنها برحيق الزهور ثم تطير لمسافة تبلغ عدة مئات من الأمتار، لتزف الخبر السار لزميلاتها في الخلية.

          حتى الآن لا تعرف النحلات الأخريات مكان الزهور التي اكتشفتها النحلة العائدة وبالمناسبة فإن حجم دماغ النحلة التي «تفكر» به في حجم رأس الدبوس!

          ومن الواضح أن هذه النحلة الكشّافة تحتاج إلى مساعدة، حتى يمكن استغلال مصدر الغذاء الجديد بأقصى قدر ممكن، لأنها لو قامت بمفردها بنقل المقدار الضئيل جدا من حبوب اللقاح ورحيق الزهور، الذي يمكنها جمعه في كل رحلة لها، فإن هذا سيؤدي بالتأكيد إلى تضور مستعمرة النحل جوعًا.

          إذن كيف تخبر النحلة الكشّافة زميلاتها في الخلية بمكان الزهور التي اكتشفتها ومن ثم «تجنيدها» حتى يمكن إحضار المزيد من الغذاء؟

          فكر العلماء طويلاً في هذا السؤال العجيب، ومن واقع انبهارهم بالطرق التي تعمل بها نحلات العسل، بعضها مع بعض، لتنتج لنا العسل وغذاء ملكات النحل وصمغ النحل، وكلها مفيدة للغاية لنا كبشر.

          بدأ العلماء في دراسة متعمقة لهذا الموضوع، ووجدوا أن طريقة اتصال النحل بعضه ببعض هي واحدة من أكثر خصائصه روعة. وفي الحقيقة فإن النحل يتميز بأن وسيلة اتصاله واحدة من أعجب وسائل الاتصال في عالم الحشرات، حيث اكتشف العلماء أن النحل يجري عمليات التواصل و«الحديث» بالرقص!

          ولتحديد مكان مصدر الغذاء البعيد جدا عن الخلية، الذي لا يمكن شم رائحته أو رؤيته من قبل النحلات الأخريات، فإن النحلة المستكشفة تؤدي «رقصة» معينة على قرص العسل داخل الخلية. وتتجمع حولها النحلات الأخريات، وتؤدي نفس رقصتها بتقليد محكم (لاحظ أن كل النحلات الشغالات «الراقصة» من الإناث)، كما تلاحظ الرائحة التي على جسمها من الزهور التي جمعت النحلة «الراقصة» الرحيق منها.

          وإذا كان مصدر الغذاء الجديد قريبا، مثلا في حدود مسافة خمسين مترا من الخلية، فإن النحلة «الراقصة» تقوم بأداء رقصة دائرية على سطح قرص العسل، تتحرك فيها جانبًا لمسافة من سنتيمترين إلى ثلاثة سنتيمترات بمعدل يبلغ نحو خمس عشرة مرة في الثانية الواحدة وفي نفس الوقت تطلق أصواتا بتردد نحو ثلاثمائة «هرتز» عن طريق ذبذبة جناحيها (الهرتز= دورة واحدة في الثانية) كما ينتج عن هذا تدفقات هوائية يمكن للنحلات الأخريات استقبالها بأعضاء خاصة بأجسامها وربما «تسمع» النحلات هذه الأصوات بواسطة أعضاء سمع دقيقة موجودة في قرني الاستشعار، ثم تدور النحلة الراقصة في الاتجاه المعاكس. ويخبر ذلك النحلات الأخريات بأن الغذاء قريب، والرائحة العالقة على جسم النحلة الراقصة تنبه زميلاتها إلى رائحة الغذاء الجديد. وعلى ذلك تغادر الشغالات الخلية، وتطير في دوائر آخذة في الاتساع حتى تصل إلى حقل الزهور الجديد، لتناول وجبة شهية من رحيق الزهور وحبوب اللقاح وحمل كميات منها إلى الخلية لتغذية باقي أفرادها، خاصة الملكة.

          أما إذا كان مصدر الغذاء الجديد بعيدا، فإن النحلة الراقصة المستكشفة، تقوم بأداء رقصتها ولكن بشكل مختلف تماما. فهي ترسم في رقصها الشكل (8) بتحركات متقطعة عبر منتصفه، وكل حركة تقوم بها النحلة الراقصة، لها معنى محدد بالنسبة إلى النحلات الأخريات، فهن يعرفن منها «مسافة» مصدر الغذاء من عدد المرات التي تدور فيها الراقصة في دوائر خلال فترة زمنية معينة، وأيضا من بطنها المهتزة، وكلما زادت المسافة، أبطأت في هز بطنها.

          ويتضح «اتجاه» مكان الغذاء الجديد، من اتجاه وزاوية تحرك النحلة المستكشفة عبر دائرة الرقص. فإذا هزت بطنها في خط مستقيم إلى أعلى عبر الدائرة، فإن النحلات المشاهدات تعرف أنها ستجد مكان الغذاء الجديد، بالطيران مباشرة في «اتجاه» الشمس. أما إذا قطعت الدائرة في خط مستقيم إلى أسفل فتكون هذه «رسالة» واضحة لها بالطيران «بعيدا» عن الشمس.

          وإذا قطعت النحلة الراقصة الدائرة بزاوية معينة، تعرف النحلات الأخريات أن عليها الطيران إلى يمين أو يسار الشمس بنفس الزاوية التي تحركت بها الراقصة إلى يمين أو يسار خط رأسي تخيلي.

          وهذا «الاستعراض» المذهل لنحلات العسل «الراقصة» هو خاصية مدهشة لعالم الحشرات. وعندما ننظر إلى خطوات الرقص المعقدة والمعلومات التفصيلية التي تحملها، وتستطيع أن «تفهمها» كل نحلات العسل بجميع أنحاء العالم (التي احتاج علماء الحشرات إلى نحو عشرين عاما لفك شفرتها)، نستطيع أن ندرك أن هذا الرقص ينقل المعلومات بدلا من التبادل اللغوي.

          ولكن هل يستخدم النحل لغة الرقص  للبحث عن مكان الغذاء فقط؟

          إن الرقص في عالم النحل الذي يستغرق نحو خمس عشرة ثانية ويعد لغة رمزية، يستخدم أيضًا في البحث عن موطن جديد. فعندما تتضخم الخلية إلى حد كبير فإن ملكة النحل تغادرها بصحبة عدد من ساكني مستعمرتها لاختيار مقر جديد لهن، ولكنها تترك خلفها بيضة واحدة أو أكثر تفقس منها ملكة جديدة، لتحكم الخلية القديمة وما فيها من شغالات وذكور. وفي البداية تحشد الملكة سربها من النحل في مكان ما - مثل فرع شجرة - ثم ترسل النحلات الشغالات للاستطلاع، بحثا عن موقع مناسب ليقمن به. وأي نحلة مستكشفة تعثر على موقع مناسب، تعود إلى الأخريات لإبلاغها بمكان هذا الموقع من خلال رقصة (8) بين حشد النحلات وتتفقد النحلات الأخريات كل موقع ممكن جاءت به النحلات المستكشفات، وترجع لإخبار المستعمرة بما «تفكر» به، ومدى حماسها أو نشاطها في رقصاتها، يعكس ردود أفعالها عن مدى ملاءمة الموقع.

          وأخيرًا بعد بضعة أيام أو نحو ذلك من «البحث عن مسكن» يحصل أحد المواقع على أغلبية ساحقة، وعندئذ يتحرك السرب بأكمله لكي يشيد مستعمرة أو خلية جديدة هناك، كما يستخدم رقص النحل لتهوية الخلية إذا ارتفعت درجة الحرارة إلى حد ينذر بالخطر، كذلك تكون رقصات النحل دعوة إلى باقي أفراد الخلية  لتنظيفها من المواد السامة والقذرة التي قد تسبب ضررا بسكانها، وذلك إما بوضع الشمع فوقها من كل اتجاه، أو إلقائها خارج الخلية. كما تستخدم رقصات النحل لتحذير أفراد الخلية من اقتراب أحد الأعداء - مثل الدود والدبابير والنمل - وذلك حتى تستعد «قوات الأمن» من الشغالات للدفاع عن الخلية ضد الغزاة.

 


 

رؤوف وصفي