الأميرة الصغيرة «مارغريت» في لوحة وصيفات الشرف.. إعداد: أحمد واحمان

الأميرة الصغيرة «مارغريت» في لوحة وصيفات الشرف.. إعداد: أحمد واحمان
        

          «لن أنسى ما حييت ذلك اليوم الجميل من شهر مارس 1999، كنت آنذاك أدرس بالسنة الثانية من الصف الإعدادي وعمري لا يتعدى ثلاث عشرة سنة ، حينما دخلت علينا مديرة المدرسة حجرة الدراسة باسمة ، وبعد وقوفنا إجلالا واحتراما لها كما دأبنا على ذلك دوما، استأذَنَت المديرة أستاذ التربية التشكيلية في إيقاف أنشطة الحصة، وتوجهت إلىّ وبيدها ظرف أبيض من الحجم الكبير، لتصافحني اليد باليد وتربت على كتفي قائلة: هنيئا لكِ يا ملاك على فوزك في المسابقة الثقافية الفنية التي نظمها المركز الثقافي الإسباني بمناسبة الذكرى الأربعمائة على ميلاد الرسام الإسباني «فيلاسكويز (Velazquez)، لقد شرّفت مدرستنا، وسنخصص لك مكافأة في ختام السنة الدراسية بدورنا، لن ننسى لك هذا الجميل يا بنيتي، أسلّمك هذه الدعوة للقاء المسئول بالبعثة الثقافية الإسبانية بالعاصمة ليرتب معك  رحلة سياحية استطلاعية إلى الديار الإسبانية في عطلة الصيف ضمن وفد طلابي رسمي، طوبى لك (الخير والعيش الطيب) تستحقين كل الثناء والتقدير». وبعد مغادرة المديرة القاعة انهالت عليّ التهاني من زميلاتي يمنة ويسرة، وأحسست بدفق من الحرارة يكسو وجنتي ، وتسارعت نبضات قلبي، كنت أطير فرحا.. لن أنسى هذا اليوم المشهود الذي سيبقى منقوشا في ذاكرتي ما حييت.. ولن أنس «ديغو فيلاسكويز» ( Diego Velazquez) والفرصة الذهبية التي أتيحت لي لزيارة إسبانيا ، وأحتفظ بسجل من الصور التذكارية بها، وخصوصا أمام تمثال هذا الرسام في مدريد العاصمة ، بميدان «باسيودل برادو».

          الآن سأحكي لكم عن سر احتفاظي في غرفتي بهذه الصورة الكبيرة وفي هذا الإطار المذهب الجميل، إنها صورة للوحة «وصيفات الشرف» ( Les Ménines  ) التي رسمها «فيلاسكويز» ما بين عامي 1656 و1657، وهي كبيرة يبلغ طولها 318 سنتيمتراً وعرضها 276 سنتيمتراً، رسمت بزيت على قماش ، وهي محفوظة حاليا بمتحف «برادو» بمدريد، وقد أتيحت لي أثناء هذه الرحلة فرصة زيارة هذا المتحف الغني بذخائر التحف الفنية والتمتع بمقتنياته النفيسة.. وتعتبر هذه اللوحة أروع ما أنتج هذا الفنان الذي يعد من أبرز العبقريات الفنية العالمية الذين أنجبتهم إسبانيا على مر التاريخ، وفي هذه اللوحة نشاهد أسرة الملك  «فليب الرابع» ملك إسبانيا في إحدى غرف قصر « ألكزار» (Alcazar) التي أقام فيها الفنان ورشته، إذ كان رساما رسميا بالبلاط الملكي ، ونجد في صدارتها الأميرة الصغيرة «مارجريت» (Marguerite) تتوسط اللوحة وحولها وصيفاتها ، على اليسار الآنسة «ماريا سرمينتو» في وضعية انحناءة تسلمها كوب ماء ، ووراء الأميرة الوصيفة الآنسة «إيزابيل دو فلاسكو» التي تبرز من خلال حركتها الاحترام والطاعة ، ثم على اليمين وفي المقدمــة القزمــة «مــاري بربــولا»، ثم القزم «نكولاسكو برتزتو»  الذي يضع مازحا رجله على الكلب الجاثم على أرضية الغرفة، وكلها أجواء توحي بالمرح الممزوج بالطاعة لوصيفات الأميرة الصغيرة، وبعيدا أورد الرسام أحد الحراس بجانب السيدة «مارسيلا دو إليوا» رئيسة وصيفات الشرف بالقصر التي خلدها «فيلاسكويز» من خلال هذه اللوحة هي وماريشال الحرس بالقصر «خوسي نيتو» الذي يظهر في قعر اللوحة صاعدا الأدراج المؤدية إلى الطابق العلوي ، ويظهر في اللوحة الفنان نفسه في أقصى الجهة اليسرى ممسكا فرشاته وهو يقوم برسم الملك وزوجته اللذين تنعكس صورتهما على المرآة في قاع الحجرة.. لقد وجد المهتمون بالفن أن هذه اللوحة مملوءة بالألغاز التي اختلفت تفاسيرها ، وقد أعجب بها آنذاك الملك «فليب الرابع»، وحينما توفي «فيلاسكويز» استقدم هذه اللوحة لديه ورسم بالأحمر على صدر الفنان علامة «وسام نبيل من هيئة سنتياغو» ... وقد شب حريق هائل بالقصر الملكي بمدريد عام 1734 أتى على نفائسه ومن جملتها مجموعة من أعمال هذا الفنان ، إلا هذه اللوحة التي بذلت الأسرة الملكية مجهودا لإنقاذها.

          ودعوني الآن أحدثكم عن «ديغو فيلاسكويز» الذي وُلد في مدينة إشبيلية في إسبانيا عام 1599 وسط أسرة متواضعة، وقد أوكل والده مهمة تدريسه مبادئ الرسم للرسام  «فرانشسكو باشكو»، وابتسم له الحظ في ربيع عام 1623 إثر دعوة له للانضمام إلى البلاط الملكي ، ودُعِي لإنجاز صورة شخصية للملك «فليب الرابع» الذي اعتلى عرش إسبانيا في سن الثامنة عشرة ، وكان ذلك بمنزلة أولى خطواته نحو المجد ، كما شاءت الأقدار أن يلتقي بالرسام البلجيكي الذائع الصيت آنذاك «بيير بول روبنز» ( Pierre Paul Rubens ) عندما حل بمدريد، وتوطدت صداقتهما وتعلّم منه ما أغنى تجربته.

          وقد سافر إلى إيطاليا مرتين، زار خلالها البندقية وفلورنسا وروما، وبها أنجز مجموعة من الروائع من جملتها «مصهر الحديد» (La forge de vulcan) و«يعقوب يتوصل بقميص يوسف»، كما أنجز خلالهما الصورة الشخصية المشهورة للبابا «أنوست العاشر» (Innocent X)، وحصل على عضوية أكاديمية روما، وبعد ذلك وعقب عودته إلى مدريد عين ماريشالا للقصر الملكي، وتمتّع بالكثير من الامتيازات ومن ضمنها الإقامة بالقصر الملكي، وفي 1660 توفي بالقصر الملكي بمدريد.

          بقي لي أن أعترف لكم أن دقائق هذه المعطيات أمدني بها عمي أحمد الذي اطلع على ما كتبه «أونطونيو بالومينو» (Antonio Palomino) الذي يعتبر أول من أعد سيرة حياة هذا الرسام ونشرها رسميا سنة 1724، وسأبقى ممتنة لعمي أحمد، مدرس الفنون التشكيلية على توجيهاته وإرشاداته التي مكنتني من الفوز في هذه المسابقة.

 


 

أحمد واحمان   

 




الرسام الفرنسي (فيلا سكويز)