الطِّفْلُ السَّمَكةُ

الطِّفْلُ السَّمَكةُ
        

رسوم: رانيا أبوالمعاطي

          كان عمر يفضلُّ هوايةَ «صيد السمكِ» وقراءةَ «الكتب العلمية» التي تدرَّس أنواعًا من الحيواناتِ البرمائيةِ، والجُزرِ والصخورِ والرمالِ، لكنه لم يشغل عقلَه إلا بحالة صديقه سعد، التي تدل على سرٍّ ما، لا يعرفه حتى أبواه!

          كان يتساءلُ بينه وبين نفسِهِ:

          - ما الذي يجعل سعدًا يسبحُ من شاطئٍ إلى شاطئ، دون أن يشعر بالفتورِ؟!

          - لماذا يغوصُ عميقًا إلى أن يصل قاعَ البحرِ، ويمكثُ هناك ما شاء، ساعة ساعتين، ثلاثاً... حتى يظن أنه غرق، ثم يطفو أكثر نشاطًا من قبلِ؟!

          - كيف تعلّم السباحةَ جيدًا، وهو لم ينخرط في نادٍ أو جمعيةٍ، بل لم يتلقَّ دروسًا من قِبل والديه ولا من معلّميه أو مدرِّبيهِ؟!

          ويزدادُ عمر دهشةً، عندما لاحظ سعدًا يشربُ ماءً كثيرًا في كلِّ لحظةٍ، إذ كان يحضر قنينةً إلى حجرِة الدَّرسِ، ليشربَ منها بين الفينةِ والفينةِ..!

          يومًا ما، حكى سعد لصديقِهِ عمر حلمًا عجيبًا:

          - رأيت في ما يرى النائمُ، أنني أسبحُ في البحرِ وحيدًا فريدًا، فجأةً، بينما أنا أغوصُ، إذ بحوريةِ البحرِ تظهرُ لي.

          وكانت الحوريةُ جميلةً جدًا، تدنو مني رويدًا رويدًا، وهي تبتسمُ لي ابتسامةً رقيقةً، وتمدُّ إلى يديها بحنانٍ كبيرٍ، ما عَهدْته في حياتي!

          خفتُ أن تلمسني بحرَاشيفِها، فتراجعت إلى الوراء، ثم غافلتَها وسبحت بسرعةٍ فائقةٍ نحو الشاطئِ، ولما أدَرْتُ رأسي، لأرى ما إذا كانت تلاحقني، لم أجِدْ لها أثرًا!

          فكّر عمر طويلاً، ثم أجابه باسمًا:

          - إذن، لا تنسَ أن تصحبها في الليلةِ القادمةِ، تناولك فواكه البحرِ!

          ردّ سعد، والابتسامة ترتسم على شفتيهِ:

          - وأنت، لا تنسَ أن تحضر عيد ميلاد صديقتنا عائشة، تناولك حلويات وعصائر شهية!

          ليلة الغدِّ، حضر الأصدقاءُ وهم يحملون هدايا، ويقدمون التهاني بالفوزِ والعمرِ المديدِ لصديقتهم.

          وبينما كانوا يغنّونَ ويرقصونَ في سرورٍ وحبورٍ كبيرين، إذ بالتيارِ الكهربائي ينقطعُ عن الحيِّ كله!

          لقد حصلَ ما لم يتوقعه الأصدقاءُ!

          سادَ الظلامُ الدامسُ كلَّ الأزقّةِ والدروبِ والمنازلِ، حتى القمر توارى خلفَ السُّحبِ الكثيفةِ!

          في هذه اللحظةِ القلقةِ بالذاتِ، شَع في الشقةِ نورٌ بهيٌّ..!

          من أين أتى هذا النورُ؟!

          انظروا، انظروا جيدًا... إنه ينبعثُ من سعدٍ، نورٌ من عينيهِ، وآخر من يديهِ، كأنه مصابيحُ مضيئةٌ من عمودٍ كهربائي!.. يا للغرابة!... هلْ يُخفي في بذلتِهِ العجيبةِ مصابيحَ ملوّنةً وبطاريات؟!

          دنا البعضُ منه بحَذرٍ شديدٍ، يريدُ أن يلمسَه، فشعرِ برِجْفةٍ عنيفةٍ:

          - كفَى عَبَثًا بنا، يا سعد!... لماذا تستغفلنا بألاعيبك؟!

          ظلَّ سعد صامتًا، لا يَنْبِس بكلمةٍ، ولا يبدي حركةً، كأنه تمثالٌ!

          لابد أن يعتذرَ لعائشةٍ، ويغادرُ الشقةَ فورًا، فحالته غير العاديةَ تدعو إلى الشكِّ والرهبةِ..!

          بعد أيام قليلة، ظهرت في جسمِهِ زعانفَ زوجيةً، كأنها يدان ورجلان. وزعانف فردية بالبطنِ والظهرِ، تشبه ثنياتٍ جلديةٍ، بها أشواك دقيقة.

          ولما عَرَضه والداه على طبيبِ الجلدِ، طمأنهما قائلاً:

          - لا تخشيا سوءًا، هذه ليست إلا حبيبات مشوكةً، مثل «الزعانفِ»!

          ووصفَ لهما «مَرْهمًا» فعّالاً، تدهن بها رءوس تلك الحبيباتِ لتحدّ من نموِّها. غير أن الدواءَ لم يُجْدِ نَفْعًا، بل تكاثرت، وعَمّت كلَّ أطرافه!

          - أظن يا صديقي، أنك من عائلةٍ بحريةٍ!

          قال عمر ضاحكًا، فأجابه سعد بسخريةٍ:

          - يا لك من عالمٍ ذكيٍ.. مَنْ أمْلى عليك هذه النظرية «العلمية»؟!..

          وكيف توصلت إلى هذه النتيجةِ الغريبةِ؟!

          ردّ عمر قائلاً:

          - حقًا ما قلت!... إنها نتيجةٌ لا يقبلها العقل بيُسْرٍ!... لكنْ ألم تسأل نفسك يومًا:

          - لماذا أغوص عميقًا في البحر؟

          - لماذا أسبح ساعات طويلة؟

          - لماذا أعُبُّ الماءَ عَبًا كل حين؟

          - لماذا هذه الزعانف تكسو جسمي؟

          - لماذا أوَلِّدُ موجات كهربائية؟

          تلألأت عينا سعد عجبًا، ثم قال بثقةٍ:

          - سأسأل والدي، ما إذا كان فعلاً من...

          وقبل أن يتم جوابه، جذبه عمر:

          - حسنًا يا صديقي، هيا بنا حالاً!

          ولَشَدَّ ما كانت مفاجأتهما عظيمة، عندما قالت لهما الأمُّ، وكأنها تعود بذاكرتِها إلى الماضي:

          - كنا نسيرُ الهُوَيْنى على الرمالِ، ذات مساءٍ من الأماسي الصيفيةِ الجميلةِ. وكان الشاطئُ خاليًا تمامًا من المصطافين، الذين يترددون على البحرِ ليقضوا سويعات في الراحةِ، ويتمتعوا بالهدوءٍ والسكونِ، ورحيل الشمسِ إلى مَرْقدِها.

          هناك عَثَرْنا على سعدٍ، فذهبنا إلى مركزِ الشرطةِ. وبما أن لا أحد أبلغ عنه، فقد ظلَّ في حِضْنِنا نربيه ونعتني به، ونعلِّمه ونحمي صحتَه ونفسَه، ونهيئ له جوًا هادئًا للعب والترفيهِ والتسليةِ. بل أصبح فِلذة من كبدِنا، لا نستطيع أن نتخلّى عنه لحظةً، وسيبقى كذلك..

          صمتت الأمُّ حينًا، ثم عادت لتستدركَ قائلةً:

          - مازلت أذكر، إن لم تَخُنّي عيناي، أنني لَمَحْتُ من بعيدٍ شيئًا يتحرّك في الماءِ، يطفو ويغوص، يطفو ويغوص قلقًا... ظننته في البدايةِ «دلفينا».. ولما تَفَرَّسْتُهُ، ظهر لي امرأةً جميلةً. دَعَكْتُ عيني المرة تلو المرة، علّني أراها فأتأكّد منها، لكنها غابت في أعماقِ البحرِ ولم يعد لها أَثر..!

          وَثَبَ سعد صائحًا بأعلى صوته:

          - إنها أمي، إنها أمي!... تعال، يا عمر، نَرَها معًا!

          صاحت به أمه متعجّبةً:

          - ماذا تقول، يا بنيّ؟!.. إلى أين تريد أن تذهب؟!

          انطلق سعد بخفة رجليه، يتبعه عمر، كأنهما يسابقان الريحِ. من هنا إلى هناك، من هذه الناحيةِ إلى تلك، حتى وصلا الشاطئ، فتوقفا لحظةً يَتَنَفّسان الصُّعَداءَ:

          - انظر يا عمر... في ذلك المكان لمحت أمي، تسبحُ تسبحُ لتُدركَني..

          أجابه عمر والابتسامة لا تفارق شفتيه:

          - هدِّئ قليلاً من حماستك، لم يكن ذلك إلا حلمًا!

          بينما هما كذلك، إذ بهما يلمحان شيئًا يتحرّك... خلع سعد ملابسَه، وألقى بنفسِهِ في الماء... جذّف وجذّف برجليهِ ويديهِ، حتى وصل ذلك المكان، فوجدَ حوريةَ البحرِ تبتسمُ له، وتدنو منه رُويدًا رويدًا رُويدًا:

          - تعال إلي، بني، لا تهرب مني، أنا أمك الحقيقة، وما هذه الزعانف إلا دليل على أنك ابني...

          قاطعها سعد قائلاً:

          - ولماذا تخليت عني، فتركتني في الشاطئ؟!

          أجابته بصوتٍ تخنقُهُ الدموعُ:

          - خشيت أن يلتهمك سمكُ القرشِ الذي هجمَ علينا وغزا منطقتنا الآمنةَ، لو لم أفعل ذلك، لما كنت الآن حيًا!

          هل تظن يا بني، أن هناك أمًا تتخلّى عن ابنِها؟!... لا، إن فؤاد الأم يفيضُ حنانًا، لا تبخل به على أولادِها، مهما كانت الظروف والأحوال!

          عانقها سعد عناقًا قويًا، وطبَعَ خَدَّها بقبلاتٍ، ثم أمسكَ بيدِها يجذبها إلى الشاطئِ.

          وهناك فوق صخرة جلسًا معًا، يتأمّلُ كلٌّ منهما الآخر بحبٍ وحنانٍ، فدنا منهما عمر والأبوان قائلين:

          - لا تنسَ، يا سعد، أن تزورنا من حين لآخر!

          ردّ سعد فرحًا:

          - من مثلي في هذا الكون الفسيحِ، أنا الطفل السمكة: أملك البحرَ والأرضَ، وأملك أمّا إنْسيّة وأمّا حيوانية... يا فرحتي، يا فرحتي!

 


 

العربي بن جلّون