طرقٌ زرقاءُ في الهواءِ.. د. محمد المخزنجي

طرقٌ زرقاءُ في الهواءِ.. د. محمد المخزنجي
        

رسوم : محمد حجي

          سبتمبر، الجو يبرد وأوراق الشجر تتساقط، ستصير أعشاشنا نحن الطيور المغردة في غابات الشمال الأوربي مكشوفة. ثم يأتي الشتاء وتتساقط الثلوج فنموت فوق الغصون العارية متجمدين. ومن ينجُ من التجمد بالاختباء في عليات البيوت لن يجد ما يقتات به بينما مياه البحيرات والأنهار تتجمد فلا نستطيع أن نشرب. الدببة التي تتحمل البرد الشديد تدخل جحورها وتغط في سبات عميق طوال أشهر الشتاء الطويل. ونحن لسنا دببة بل مجرد طيور مغردة لا تتحمل البرد وليست مهيأة للبيات الشتوي. ماذا نفعل؟ نكرر ما ورثناه عن آبائنا وأمهاتنا وأجدادنا عبر آلاف السنين: نهاجر باتجاه الجنوب بحثًا عن الدفء والغذاء والماء العذب غير المتجمد. نتجمع في أسراب كبيرة من آلاف الطيور تحت قيادة أفراد ذوي خبرة يعرفون طرق هذا السفر الطويل إلى الجنوب الدافئ. إنها رحلة طويلة وصعبة لكننا نصر على خوضها لنستمر في الحياة. نمضي الشتاء في الجنوب في ربوع آسيا الخضراء وإفريقيا المزهرة ونعود إلى أوطاننا عندما يأتي الربيع. نكون منهكين من شدة التعب عند العودة  لكننا نستعيد نشاطنا بسرعة مع توافر الغذاء الذي تمنحه أشجار وحقول الربيع في بلادنا. نتكاثر فتمتلئ أعشاشنا بالصغار الذين نهيئهم للرحلة الطويلة ذهابًا إلى الجنوب في الخريف وعودة منه في الربيع. يراقب البشر رحلاتنا ونحن نمر في سماوات بلادهم على شكل غيمات مثلثة من نقاط داكنة كل نقطة منها هي طائر مهاجر. رأس المثلث هو الطائر الدليل الذي يقود سرب المهاجرين باتجاه الدفء البعيد. هناك عدد من الطيور الأدلة تتبادل القيادة على امتداد الرحلة الطويلة. ونحن نحير البشر الذين لا يعرفون السر الذي نهتدي به إلى  أهدافنا التي تفصلها عن أوطاننا آلاف الأميال. نعبر بحارًا ونمر فوق جبال ونحلق فوق سهول وصحارى وأنهار وبحيرات. ونصل إلى حيث نريد بدقة وفي مواقيت لا تتغير. كيف يحدث هذا ؟ حيّر السؤال علماء البشر طوال مئات ومئات  السنين وهاهم يكتشفون السر أخيرًا. وهو اكتشاف أثار ذهول البشر الذين عرفوا به . في البداية اكتشفوا أن هناك نوعًا من البوصلة الحيوية في رؤوسنا تهدينا إلى الاتجاهات الصحيحة نحو أهدافنا. ولم تكن هذه هي الحقيقة كاملة بل بعضها. أما الحقيقة التي اكتشفوها أخيرًا فهي أننا نبصر ما لا يبصرون.

          ففي عيوننا خلايا عصبية متخصصة لا يوجد مثلها في عيون البشر. وهذه الخلايا موصولة عبر ممرات معينة  بمناطق في أدمغتنا مسئولة عن الرؤية. هذه الخلايا تمتلك حساسية خاصة للمجال المغناطيسي وتستطيع رؤية خطوط هذا المجال على هيئة مسارات زرقاء.  مسارات بدرجات من اللون الأزرق نبصرها في الهواء ونستطيع أن نميز منها الخط المحدد الذي يقودنا إلى المكان الذي نريده فنسير عليه.

          تماما مثل الطرق التي تقود البشر إلى أهدافهم على الأرض. لكن بدلا من طرق السفر البشرية السوداء التي تشق الأرض ، ترتسم طرقنا بلون أزرق شفاف عبر الهواء في الأعالي. طرق سماوية زرقاء نسير فيها عندما يأتي الخريف. محلقين باتجاه ضفاف البحيرات والأنهار الدافئة التي تروينا. والسهول والحقول والغابات التي نجد فيها الحبوب والثمار. طرق زرقاء هي  نفسها التي نسلكها في طريق عودتنا إلى أوطاننا عندما يأتيها الربيع وينتشر في أنحائها الدفء. إننا نحس بدورة الفصول من تغيرات درجات الحرارة. وعندما يصبح الجو في الجنوب أكثر دفئًا وتبدأ الزهور في الطلوع  ندرك أن الربيع يبدأ في بلادنا الشمالية. نعرف أن الثلوج تذوب وأن الأنهار المتجمدة والبحيرات تسيل. نعرف أن الأشجار تعود خضراء، حيث يمكننا أن نبني أعشاشا جديدة ونتزاوج ونضع البيض. نودع الجنوب الذي استضافنا طوال الشتاء ونتجه صوب أوطاننا في الشمال. نسلك الطرق الزرقاء التي تبصرها عيوننا في الهواء .. وعلى هديها نطير.

 


 

محمد المخزنجي