مقعد 6 في عربة 6

مقعد 6 في عربة 6
        

رسوم: عدلي رزق الله

          كنت سارحة مع أفكاري عندما أطلق القطار صفارة طويلة بدت كأنها خرجت من حلق ماردٍ عملاقٍ، منبهة أن الوقتَ قد حان ليغادر المحطةَ، نظرتُ من النافذة التي كنت أجلس ملاصقةً لها أتابع حركة الركاب والباعة على الرصيف، والقطارُ يتحرك ببطء والمودعون يلوحون لذويهم وأقاربهم، وترامى إلى سمعي بعض كلمات الوداع مثل مع السلامة، طمأنونا بمجرد وصولكم، كونوا على اتصالٍ.. إلخ، ولكن القطارَ كان أصمَّ لا يعير انتباهه لمثل هذه الكلمات وأخذ يزيد من سرعته تدريجيًا مخترقًا أمامه السكونَ والطريقَ الطويل الذي يبدو كأنه بلا نهاية.

          بمفردي كنتُ أجلس على مقعد رقم 5 في عربة رقم 6 من قطار الإسكندرية عندما دونت الكلماتِ السابقةَ في كشكول أحمله معي في أي مكان أسافرُ إليه وذلك على سبيل المقدمة لقصة حلمت كثيرًا في الماضي أن أكتبها ولكنني لم أنجح.

          كان أبي لم يجد حجزًا في القطار إلا لأرقام المقاعد (40 و41 و42 و43 و5) أي أربعة مقاعدة متتابعة والخامس بعيدًا عنهم، وخيرني أن أجلس بجوار أمي وأخي وأختي أو أجلس بمفردي، إلا أنه كان متأكدًا أنني سأفضل الجلوس على المقعد رقم 5 خاصة أن الكرسي قريبٌ من الباب وبهذا لن أضطر للسير مسافةً كبيرةً تتفحصني عيون المسافرين إذا أردت الذهابَ للحمام وذلك لشدة خجلي وشعوري بالارتباك عندما أرتاد مكانًا لأول مرة.

          بعد دقائق قامت أمي من مكانها وجلست بجواري، ثم ربتت على يدي برفقٍ وهي تنظر إلي في حنانٍ زائد، كثيرًا ما كنت أضيق به وقالت:

          - المسافة طويلة لمدينة الإسكندرية يا هدى، هل ستقضين كل هذا الوقت وحيدة؟!

          رفعت عيني من على طرف حذائي ثم أمسكت أحد كتب الأديبة زرقاء اليمامة ولوحت به لأمي من دون أن أنبس، فربتت على يدي مرة أخرى وقالت:

          - على العموم الكتابُ خيرُ صديق.

          واستطردت أنا في اقتضاب:

          - خاصة إذا كان لكاتبتي المفضلة «زرقاء اليمامة».

          وقامت أمي وعدت لوحدتي، ولكن تركتْ داخلي سؤالاً ظل يتردد: ما الذي يدعوني للخجل والانطواء؟! وما سر عدم ثقتي بنفسي، وإحساسي أنني أقل ممن حولي؟! هل بسبب هذه... وهنا قاطع تفكيري صوتٌ رقيقٌ تفيض من حروفه ثقة بالنفس.

          - هل هذا مقعد 6 في عربة رقم 6؟

          كان الصوت لسيدة أنيقة ترتدي فستانًا مزركشًا، وتضع على عينيها نظارة سوداء، وتحمل في يمناها حقيبة سفر، وتعلق في كتفها اليسرى حقيبةَ يدٍ صغيرةً، هززت رأسي بالإيجاب، ولكنها بدت أنها لم ترني فأعادت عليّ السؤال بصوت أعلى:

          - هل هذا مقعد رقم 6؟

          النظارةُ السوداءُ التي على عينيها وإعادتها للسؤال على الرغم من أنني أجبتها بهزة من رأسي أكدا لي أنها كفيفة،فكررت إجابتي في تردد:

          - نعم مقعد 6 عربة 6.

          رفعت السيدةُ حقيبةَ سفرها ووضعتها على شبكة الأمتعةِ العلوية بعد أن شبت على قدميها وأفسحت مكانًا لحقيبتها وسطَ الحقائبِ دون أن تصدر منها إشارة تنبئ أنها لا ترى، ابتسمت ابتسامة ودودةً عريضة ملأت صفحةَ وجهِها الجميلِ الدقيق جعلتني أشعر أنني قابلتها من قبل، قالت وهي تجلس بجواري وكأنها تعرفني من زمن بعيد:

          - إنني معتادة على السفرِ بالقطار ولكنني هذه المرةِ أسأتُ تقديرَ رقم عربة القطار، فركبت في عربة رقم 5، ولما تنبهت لخطئي كان القطَارُ قد تحرك فسرت خلال عربة 5 حتى وصلت لعربة رقم 6.

          وضعتْ بعضَ الكتب التي كانت تمسكها في يدها في الشبكة التي في ظهر المقعد الذي أمامها ثم التفتت إليّ وقالت:

          - في الرحلةِ يكون الرفيقُ أهمَ من الطريق ثم مدت يدها لي لتصافحني وكأنها تعرفني منذ زمن بعيد وأكملت في ود صادق: اسمي منار، وأنت ما اسمك؟!

          تمتمت في خجل بصوت منخفض: اسمي هدى.

          شعرت ببعض الضيق لأنها ستقطع علي وحدتي وتأملي في صمت، ثم أدرت وجهي أنظر للمزارعِ الخضراء التي بدأ القطار يمر من خلالها، ولما وجدتْ مني هذا الإعراضَ وإصراري أن أبقى صامتةً أخرجت من حقيبة يدها كتابًا صفحاته منقوش عليها حروفٌ بارزةٌ بطريقة «برايل» وأخذت تجري بأصابعها على الأسطر بسرعة أدهشتني.. أصابع للرؤية! جارتي كانت تقرأ بأصابِعها، ورحت أتأملها وأتأمل ابتسامتَها العريضة التي لا تفارق وجهها الجميلَ.

          بعد قليل مالت على أذني وهمست في ود:

          - متأسفة، لاحظت أنك تؤثرين الصمت وتميلين إلى العزلة فانشغلتُ عنك بصديقٍ آخر للطريق، الكتاب.

          وجدت نفسي مندفعةً للكلامِ معها، فقلت ببعض الخجل:

          - في الحقيقة أنا أيضًا أحب القراءةَ، وأرى في الكتاب صديقاً لطيفًا لرحلاتي الطويلة.

          - هذا حسنٌ ولكن لم كل هذا الخجل الذي أستشعره في كلماتك؟!

          أجبت بعد فترة صمتٍ قصيرةٍ:

          - في الحقيقة كثيرًا ما أشعر به عندما أرتاد مكانًا لأول مرة أو عندما أتعرف بأناسٍ جددٍ.

          - ولمَ؟!

          جلت ببصري في المكان لأتأكد أنه ليس هناك من يستمع إليها، ثم قلت في تردد:

          - أشعر أحيانا أن الناس تتغامز علي ساخرة.

          - هذا إحساس خاطئ يا هدى، أنت لست أقل من أي أحد ليتغامز عليك ساخرًا، وإن فعل يكون مخطئًا.

          وجدت نفسي من دون أن أدري مندفعة اندفاعًا لأكشف لها عن نفسي، فقلت وكلماتي مازالت مرتبكة:

          - هناك شيء لا تستطيعين أن تريه فيّ.

          - شيء لا أستطيع أن أراه فيك؟!

          - عفوًا أنا آسفة، أقصد أنا لا أعرف كيف أعبر لك.. تخونني الكلمات.

          فمالت على أذني وهمست بصوتٍ خافتٍ:

          - هل تقصدين ذلك الجهاز المثبت في رجلك اليمنى!

          فاجأني ردها فقلت مسرعةً:

          - الجهاز الذي في قدمي وكيف عرفت؟!

          - كيف عرفت! وهل تظنين يا جارتي العزيزة أننا لا نرى إلا بأعيننا فقط، لقد تشاركنا مقعدين متلاصقين لأكثر من ساعةٍ ومن دون قصد منا تلامست ساقانا فعرفت بأمر ذلك الجهاز الذي يحيط بساقك ليساعدك على المشي.

          - هذه هي الحقيقة، نتيجة حادث سيارةٍ أصبت في قدمي اليمنى بإعاقة.. أنا عاجزةٌ.

          - إعاقة، عاجزة!! لا ترددي مثل هذه الكلماتِ يا هدى، هل لمجرد أن يصاب الإنسان في قدمه أو أي عضو آخر يصف نفسه بأنه معاق، العجزُ الحقيقي يا هدى هو أن نشعر داخلنا بقصور يعوقنا أن نعيش أسوياء، فأنا مثلاً كفيفة البصر ولكنني أستطيع أن أرى بخيالي ما تعجز عيناي أن تراه، فقداننا لأحد أعضاء جسدِنا قد يكون قضبانًا نسجن أنفسنا وراءها، وقد تكون أجنحة تحلق بنا في سماوات رحبة واسعة، في الوقت الذي يكون فيه غيرنا أسرى محبوسين داخل قيودِ أجسادهم العفية، لقد خلق الله يا هدى في داخل كل واحد منا موهبةً عليه أن يكتشفها، أعيدي التطلع لنفسك واكتشفي موهبتك.

          شجعني كلامها كثيرًا، ودبت فيّ روحٌ جديدة، فقلت بعد أن زال عني بعض الخجل:

          - أنا أحب القراءة ولي بعض المحاولات المتواضعة في كتابة القصة، ولكن في الحقيقةِ كل مرة كنت أبدأ ولا أنهي ما أكتب.

          ابتسمت مشجعة وقالت:

          - جميل، يسعدني أن أقرأ ما كتبت إن لم يكن لديك مانعٌ.

          وقرأت عليها ما كتبت منذ نحو ساعة، وما إن انتهيت من القراءة حتى صاحت في إعجاب:

          - أسلوبُك رائعٌ حقًا، إذا نميت موهبتك هذه ستكونين في المستقبل كاتبةً ممتازةً.

          رددت كحالمة:

          - هل لي أن أحلم أن أكون مثل الكاتبة المشهورة «زرقاء اليمامة»!

          عادت لها روحها البشوشة وضحكت بصوت عال:

          - «زرقاء اليمامة»!

          - أعرف أن اسمها قديم مثير للضحك، ولكنني أعجب كثيرًا بوصفها للأماكنِ والأشخاصِ، أشعر وأنا أقرأ قصصها كأنها ترى بعين مائة شخص.

          - استمرارك في القراءة والكتابة سيجعلك يومًا مثلها، بل ربما أحسن منها.

          - وهل يعقل أن أسوي نفسي بإنسان سوي، ليس به عاهة أو...

          وقاطعتني بسرعة:

          - لا تعودي لمثل هذا الكلام، واستطردت كأنها تراني: أرى أنك مازلت غير مقتنعة بكلامي، إذن لا مفر من كشف الحقيقة.

          أشارت إلى نفسها وابتسامتُها البشوشةُ لا تفارقها وقالت:

          - في بداية معرفتنا عرفتك بنفسي أن اسمي منار، ومنار هو الاسم الحقيقي للاسم المستعار الذي أوقع به على قصصي التي أكتبها وهو «زرقاء اليمامة».

          نظرت إليها طويلاً وقد عقدت المفاجأة لساني، ثم رددت اسمها كمسحورة:

          - حضرتك «زرقاء اليمامة».

          ثم لم أدر بنفسي إلا أنا وهي ننفجر بالضحك مقهقهتين من دون حرجٍ من نظرات الناسِ من حولنا ، ومن دون أن أشعرَ بأي خجلٍ أو خوف.

 


 

ماجد جورج