في الأقْفاص ِلايَجوزُ الاقتِناصُ.. د. محمد المخزنجي

في الأقْفاص ِلايَجوزُ الاقتِناصُ.. د. محمد المخزنجي
        

رسوم: محمد حجي

          أنا المواطن الصيني «زنزهاو» صاحب النسر الشهير الذي تحدثت عنه وكالات الأنباء العالمية، أحضرت النسر وكان صغيرا جدا لايتجاوز عمره عدة أيام. وضعته في قفص كبير مدركا أنه سيكبر بسرعة ويتضاعف حجمه. ومنذ اقتنيته وأنا أطعمه قطعًا صغيرة من اللحم. وعندما بلغ أربعة أشهر كان عليَّ أن أغير طريقة تغذيته للتلاءم مع نسر شاب يتصرف بطريقة طبيعية كما يحدث لمثله في البراري. أحضرت له أرنبًا صغيرًا وفتحت باب القفص دافعًا بالأرنب داخله ثم أغلقت الباب بسرعة. ثم وقفت متحمسًا أراقب مايحدث. لم يهجم النسر على الأرنب ويمزقه بمنقاره الكبير الحاد كما توقعت. وطال انتظاري فهممت بتحريض النسر على الأرنب. أخذت أدفعه بعصا رفيعة أمدها في القفص لكنني توقفت عندما لاحظت شيئًا غريبًا يحدث. لقد تحرك الأرنب الصغير ببراءة مقتربًا من النسر فأمال النسر رأسه يتأمل الأرنب. وبدا أن حديثًا صامتا يجري بينهما. كأن الأرنب يقول للنسر : مرحبا أيها الطائر الكبير. وكأن النسر يرد عليه: مرحبًًا أيها الأرنب الصغير. هذا يقول مرحبا وذاك يرد عليه بالترحيب. ثم يعقدان صداقة بامتداح كل منهما للآخر : «ما أجمل ريشك أيها الطائر العظيم». «وما أجمل شكلك أيها الكائن الصغير». ثم راح الأرنب يقترب أكثر من النسر بينما النسر يحني له رأسه. وبلسانه الوردي الصغير الناعم شرع الأرنب يلعق ريش النسر. لمسات رقيقة واضح أنها أعجبت النسر فربض خافضًا جناحيه للأرنب. وواصل الأرنب لعق ريش الجناحين بطريقة منظمة كأنه ينسق ريشات الجناح ريشة ريشة. مر نهار وليل والنسر لايفترس الأرنب الصغير الذي تركته له في القفص. قلت في نفسي إن الجوع سينهي هذه الصداقة العجيبة ويختفي الأرنب الصغير في جوف النسر المفترس. لكن الافتراس لم يحدث بالرغم من مرور يومين لم أقدم خلالهما أي طعام للنسر، وإن كنت قدمت للأرنب جزرتين حتى لا يصير هزيلاً ويطالبني النسر بالمزيد من الأرانب. شيء عجيب. صارت الأيام ثلاثة ثم أربعة فخمسة وخفت أن يموت نسري من الجوع وأفقد الثروة التي كنت أنتظرها من بيعه، فعدت أقدم له قطع اللحم بينما الأرنب يلتهم الجزر الذي واصلت تقديمه له. ولأنني تحيرت تمامًا وعجزت عن التصرف سألت خبيرًا في الطيور فلم يصدقني حتى أتى ليشاهد بنفسه. ولأنه اعتبر هذه الحالة أعجوبة يصعب تصديقها أحضر فريقه العلمي وصوروا ملامح الصداقة بين النسر والأرنب. وسرعان ما تحول قفصي إلى نقطة جذب للتلفزيونات والصحف ووكالات الأنباء العالمية. صرت مشهورًا في العالم بسبب نسري الشاب وأرنبي الصغير. بل جنيت ولاأزال أجني، أرباحًا من عوائد تصوير التلفزيونات والصحف لقفصي والأعجوبة التي تحدث داخله. طبعا واصلت تقديم قطع اللحم للنسر والجزر للأرنب بسخاء أكثر بعد أن تحولا إلى مصدر للربح يفوق أي ربح كنت سأجنيه من بيع النسر. صرت مشهورًا في العالم وأدلي بأحاديث صحفية وتُجرى معي مقابلات تلفزيونية كررت فيها تفاصيل حكاية النسر والأرنب. وتُوجه لي أسئلة عديدة حيرني منها سؤال سمعته عدة مرات : كيف تفسر عدم افتراس النسر للأرنب بالرغم من أنه كان جائعًا والأرانب هي أشهى ما تفضله النسور من طعام؟ لم أجب مباشرة. همهمت متحيرا ثم تخيلت نفسي نسرًا في قفص يقدمون له أرنبًا صغيرًا ليقتنصه. أرنب صغير بعينين بريئتين مدورتين وفراء جميل ناعم وناصع البياض. ثم تصورت هذا الأرنب الصغير يقترب مني ويلعق ريشاتي بلسانه الوردي الناعم الصغير فتسري في جسمي دغدغة حلوة. دغدغة تذكرني بما كانت تفعله أمي وأنا صغير عندما تنسق ريشي بمنقارها بخفة وحب. كيف أفترس من يذكرني بحنان أمي؟ وكيف يفترس كائن سجين سجينًا آخر محبوسًا معه في قفص واحد؟!

 


 

محمد المخزنجي