حِكايةُ الأَرنَبِ الّذي فَقَدَ أذُنَيهِ

حِكايةُ الأَرنَبِ الّذي فَقَدَ أذُنَيهِ
        

رسم: عفراء اليوسف

          يشعر الأرنبُ الرماديُّ الصغيرُ بتميّزه بين إخوته ولدَّاتِه (رفاقه)، فإلى جانب لونه الرماديّ الذي ينتهي عند أطرافِ ذيله وأذنيه بوبرٍ أسودٍ، كان وبره أكثر غزارةَ من بقيّة الأرانبِ وأكثرَ لمعانًا. وهو ما جعله مختلفًا عن كلّ الأرانبِ الأخرى في الضيعة التي ولد فيها، فلفت انتباه أصحابها وصارَ المفضّلَ عندهم.

          كان الأرنبُ الرماديُّ الصغيرُ يشعر بذلك، فتمتلئ نفسُه فخرًا واعتزازًا، حتى أنّه صار يفكّر في هوانه وهو يحيا بين هذه الأرانبِ العاديّة الخاملةِ. وقد صار يتحاشاها، ويتجنّب اللعبَ معها حتى لا يتأذّى جمالُه أو يفقد رونقه. كان يقف وحيدًا أمام بركةِ الماءِ الصغيرةِ يتأمّل صورته المنعكسة على صفحتها، ويفكّر في الطريقة المثلى للحفاظ على هذا الجمالِ الذي صار ينظر إليه بتحسّرٍ. لقد أصبح الأرنبُ الرماديُّ الصغيرُ يتحسرُّ على جمالِه الذي لا يشكّ في أنّه سيذوي ويتلاشى إذا لم يجد الطريقةَ المناسبةَ للحفاظ عليه.

          انتبهت أمّه إلى سلوكه، ونبّهته من الغرورِ. فقالت له ذات يوم:

          - لا تتكبّر على اخوتك يا بنيّ، فالغرورُ يعمي ويصمّ، وكثيرًا ما يؤدي بصاحبِه إلى المهالكِ.

          لكنّ الأرنبَ الرماديّ الصغير لم يكن يعير كلامَها اهتمامًا، بل أصبح أكثر نفورًا من إخوتِه، وصار كلّ تفكيره متّجهًا إلى البحثِ عن طريقةٍ مناسبةٍ للحفاظ على جماله.

          ذات يومٍ بينما كان منشغلاً بتأمّل صورتَه المنعكسةَ على صفحة الماء، رآه ذئب على تلك الحالة منفردًا بعيدًا عن بقيّة الأرانبِ، فتقدّم منه بهدوء، ونظر إلى صورة الأرنب على الماء، ثمّ قال له:

          - ما أجمل صورتك أيّها الأرنب الصغير.

          قال الأرنب متنهّدا:

          - هذا ما أقوله لنفسي كلَّ يومٍ، ولكن لا أحد يقدّر ذلك هنا.

          ثمّ استدرك قائلا:

          - ولكن من تكون أنتَ؟ ألست الذئبَ مفترسَ الأرانبِ؟

          قال الذئب في خبث:

          - نعم. ولكنّني لا أفترس الأرانبَ الجميلةَ، إنّ أمثالك لم يُخلقوا للافتراس، بل ليستمتع الآخرون بجمال منظرهم.

          عاد الأرنب الصغير إلى تأمّل صورته، ثمّ قال:

          - لكنّني لا أعرف كيف أحافظ على جمالي، وأخافُ أن أصبحَ ذات يوم أرنبًا عاديًا خاملاً.

          فقال له الذئب :

          - العسلُ يا صديقي هو الغذاءُ الوحيد الذي يسمح لك بالحفاظ على جمالك.

          - وما هو العسلُ؟ تساءل الأرنب. أهو من النباتِ فأقضم منه؟

          قال الذئب:

          - إنّه سائلٌ حلوُ المذاقِ، ينتجه النحلُ، ويستخرجه الإنسانُ من بيوتها، فيحتفظ به لنفسه، يتغذى به ويطعمه لأبنائه، وله منافعٌ كثيرةٌ، فإذا أخذت منه كلّ يوم مقدارًا حافظت على غزارةٍ وبرِك ولمعانه.

          تنهّد الأرنبُ الصغيرَ بتحسّر، ثمّ قال:

          - ولكن من يدلّني عليه؟ إنّني لا أعرف مكان وجوده.

          وهنا قال الذئبُ في مكر:

          - أنا أدلّك عليه. تتبعني من دون أن تنبّه أحدًا، وسأقودك إلى حيث يخبّئ صاحبُ الضيعة عسله.

          تبع الأرنب الرماديُّ الصغيرُ الذئبَ، من دون أن ينتبه لهما أحد توجّها معا إلى طرف الضيعة حيث تقع بيوت النحل والكوخ الذي خصّصه صاحب الضيعة لاستخراج العسل وتخزينه.

          كان باب الكوخ مقفلا بإحكام، فدخل الذئب من فتحة في الجدار الخشبيّ، وقبل أن يدخل الأرنب وراءه وقف هنيهة (وقت قصير جدًا) يتأمّل حركة النحل النشطة وهي تتطاير من حوله، متعجّبا من هذه الحشرات الصغيرة، ومن قدرتها على إنتاجِ هذا السائلِ السحريّ الحلو الذي وصفَه له صديقُه الذئب.

          في الداخل كان الضوءُ شحيحًا ولكنّ الأرنب الرماديّ الصغير استطاع أن يرى شبحَ الذئبِ فوق عدد من البراميل الصغيرة المصفوفة في أحد الأركان، فقفز بجانبه.

          كان أحدُ البراميلِ مفتوحًا، فقال الذئب:

          - هذا هو العسلُ، خذ منه حاجتَك اليومَ، وعد له متى شئت حتى تنال مبتغاك، ويحتفظ وبرك بجماله.

          كان الذئبُ يضمر الشرَّ للأرنب، وكان ينتظر الفرصةَ المناسبةَ بعيدًا عن الأعينِ لينقضّ عليه ويفترسه.

          نظر الأرنبُ إلى داخِل البرميلِ، فرأى سائلاً خاثرًا بلون داكن، وأراد أن يمدّ إليه لسانَه ليلعق منه. في هذه اللحظةِ رأى في قعر البرميل صورة صديقه الذئب وقد تغيّرت ملامحه فاتحًا فمَه مكشّرًا عن أنيابِه، وهو يهمّ بالانقضاضِ عليه. ذُعر الأرنبُ ذعرًا شديدًا، فقفزَ داخلَ البرميلِ، ووجد نفسَه يسبح في السائلِ اللزج بكامل جسده.

          حاول الذئبُ أن يلتقطَ الأرنبَ، ولكنّ لزاجةَ العسلِ منعته من غرز مخالبه الحادةِ في الجسدِ الصغيرِ، فغادر الكوخَ حانقًا (مغتاظ).

          لقد نجا الأرنبُ من الذئبِ، ولكنّه لن ينجو من الغرقِ. وتذكّر فجأة أمّه واخوته، وشعر بالندم الشديد لأنّه لم يعر كلامَ أمّه اهتمامًا.

          ظلّ الأرنبُ الرماديُّ الصغيرُ في برميلِ العسلِ يدفع الغرقَ بقوائمه، حتى انفتح باب الكوخ فجأة وغمر الضوءُ المكانَ. سمع الأرنب وقع خطى بشريّة تقترب، ورأى صاحبَ الضيعةِ يطلّ عليه بآنية في يديه. كان صاحب الضيعة العجوز يريد أن يملأ آنيته عسلا، ففوجئ بالأرنب سابحا في البرميل، واندهش من ذلك دهشةً شديدة.

          بحنق التقطه من أذنيه، وألقى به خارج الكوخ، فتدحرج الأرنبُ الصغيرُ بقوّة بين الحشائش والحصى. وعندما استقام على قوائمه شعر بحركاته ثقيلـةً، ووجد وبره قذرًا بسبب ما التصق به من تراب وحشائش، فتوجّه إلى بركة الماء ليستحمّ ويتخلّص مما علق به. ولكّنه ما إن أطلّ بوجهه على صفحة الماء حتى افتقد إذنيه، فانتابه ذعرٌ شديدٌ، ولم يشكّ في أن صاحب الضيعة قد اقتلعهما وهو يخرجه من البرميل ويلقي به بقوّة خارج الكوخ.

          انخرط الأرنب الرماديّ الصغير في البكاء، لقد كان يريد أن يظلّ مميّزا بين الأرانب، وها هو الآن يصبح أقلّ من الأرانب العاديّة، وقد افتقد الأذنين المنتصبتين اللتين يتميّز بهما أبناء جنسه.

          ندم الأرنب على غروره، ولكنّ الندم لن ينفعه الآن، وعليه أن يجد طريقه إلى البيت متخفّيا حتى لا يراه أحد فيثير سخريته ويضحك منه. وقرّر أنّه إذا وصل إلى البيت فلن يخرج منه بعد ذلك أبدا.

          عندما وصل الأرنب الرماديّ إلى البيت، وجد أمّه واخوته قلقين بسبب غيابِهِ، فلمّا رأوه انفجر إخوته ضحكًا، وبادرته أمّه متسائلة:

          - ما الذي أصابك؟ وما هذه القذارة التي أنت عليها؟

          فروى لها باكيًا ما وقع له وإخوته ينصتون، فلمّا أنهى حديثه، قالت له أمّه:

          - اذهب واستحمّ، وستعود لك أذناك، إنّهما لاتزالان على رأسك، ولكنّهما التصقتا بظهرك، بسبب العسل الذي كدت تغرق فيه.

          استحمّ الأرنب الرماديّ الصغيُر، وعادت أذناه إلى الانتصاب من جديد، ولكنّه لم يعد يفكّر في تميّزه عن اخوته ولدَّاته، وتخلى نهائيا عن أفكاره المغرورة. لقد تعلّم درسًا لعلّه الأهمُّ في حياتِه: إنّ الكائن مهما وهبه اللهُ من تميّز معرّضٌ إذا تكبّر على غيره لأن يصير أقلّ منه، وأنّ الغرور لا يؤدي بصاحبه إلاّ إلى المهالك.

 


 

مجدي بن عيسى