رَحَلْتُ ورَأَيْتُ جَدَّتايَ الْحَنونتانِ: سَبْتَةُ ومَليلْيَةُ.. العربي بن جلون

رَحَلْتُ ورَأَيْتُ جَدَّتايَ الْحَنونتانِ: سَبْتَةُ ومَليلْيَةُ.. العربي بن جلون

رسم: عبدالله الدرقاوي

  • سَبْتَةُ ومَليلْيَةُ: مَدينَتانِ مَغْرِيِيَّتانِ تَحْتَلُّهُما إسْبانْيا، تَقَعُ الأولى في الشَّمالِ، والثَّانِيَةُ في الشَّمالِ الشَّرْقي
  • تِطْوانُ وفاسُ ومَكْناسُ ومُرَّاكُشُ وطَنْجَةُ وَسَلاَ والْعُيونُ وَتازَةُ ووَجْدَةُ: مُدُنٌ مَغْرِيِيَّةٌ عَتيقَةٌ

في تِلْكَ اللَّيْلَةِ الرَّبِيعِيَّةِ الْجَمِيلَةِ، أَرْسَلَ الْقَمَرُ الضَّاحِكُ شُعَاعَهُ الْفِضِّيَّ، فَظَهَرَ عَلَى صَفْحَةِ الْماءِ بَرِيقاً يُعْشِي عَيْنَيْ جَدَّتِي الطَّيِّبَةِ (سَبْتَةَ).

نَهَضَتْ مِنْ كُرْسِيِّهَا الْوَثيرِ، تَتَّكِئُ عَلى عُكَّازٍِِ ذَهَبِيٍّ، وَأَطَلَّتْ مِنَ الشُّرْفَةِ عَلَى أُخْتِها الْحَمامَةِ الْوَديعَةِ (تِطْوانَ).

رَفَعَتِ الْحَمامَةُ رَأْسَهَا مُحَيِّيَةً أُخْتَهَا:

- مساءَ الْخَيْرِ، أُخْتي سَبْتَةَ!

رَدَّتِ التَّحِيَّةَ بِعَيْنَيْنِ ذَابِلَتَيْنِ:

- مساءَ النُّورِ، أُخْتي تِطْوانَ!.. عُذْرا، مُنْذُ قُرونٍِ طَوِيلَةٍ، وَأَنا أُريدُ أَنْ أَنْزِلَ مِنْ هَذِهِ الشُّرْفَةِ الْعالِيَةِ لأَلْتَقِيَ بِكِ، وَلَمْ أَقْدِرْ!

أجابَتْها تِطْوانُ بِصَوْتٍ حَزينٍ:

- وَأَنا أَيْضاً، لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَصْعَدَ إِلَيْكِ. لَقَدْ حاوَلْتُ مِراراً وَتَكْراراً دونَ جَدْوى. لَكِنْ، ثِقِي بِأَنَّنَا سَنَلْتَقِي الْيَوْمَ أَوْ غَداً، عاجِلاً أَوْ آجِلاً. فَاللَّيْلُ يَعْقُبُهُ الصَّباحُ، وَالشِّتاءُ يَعْقُبُهُ الرَّبيعُ. هَذِهِ سُنَّةُ الْحَياةِ عَلى الأَرْضِ، وَكَما قالَ الشَّاعِرُ أَبُو تَمَّامٍ:

وَما مِنْ شِدَّةٍ إِلاَّ سَيَأْتِي
لَهَا مِنْ بَعْدِ شِدَّتِها رَخاءُ

هَزَّتْ سَبْتَةُ رَأْسَها مُوافِقَةً، وقالَتْ بِثِقَةٍ:

- حَقًّا ما قُلْتِ، أُخْتي!.. هاأنَا أنْتَظِرُ ساعَةَ اللِّقاءِ مَعَ أَخَواتي الشَّقيقاتِ فاسَ ومَكْناسَ ومُرَّاكُشَ وطَنْجَةَ وَسَلاَ والْعُيونِ وَتازَةَ ووَجْدَةَ، وغَيْرِها كَثيرٌ كَثيرٌ مِنَ الْمُدُنِ الْمَغْرِبِيَّةِ.

إِنَّنِي - كَما تَعْلَمينَ - الأُمُّ الْحَنونُ الَّتِي احْتَضَنَتِ الإنْسانَ الْفينيقِيَّ الأَوَّلَ، ثُمَّ الْقُرْطاجِنِيَّ، وَلَمَّا عَرَفَنِي الرُّومانُ وَالْوِنْدالُ غَزَوْنِي، وَفي آخِرِ الْقَرْنِ السَّابِعِ الْميلادِيِّ حَكَمَنِي الْقُوطِيُّونَ. وَيَكْفيني شَرَفاً أَنْ أَحْتَضِنَ الْبَطَلَ الْعَرَبِيَّ مُوسَى بْنَ نُصَيْرٍ في عَصْرِ الْفَتْحِ الإسْلامِيِّ، وَأُمَهِّدَ لَهُ الطَّريقَ لِفَتْحِ الأَنْدَلُسِ، الْفِرْدَوْسِ الْعَرَبِيِّ الْمَفْقودِ!

لَكِنْ، وَالْحَقيقَةُ تُقالُ، إِنَّ الَّذينَ شَيَّدونِي، هُمْ أُمَراءُ الأَدارِسَةِ: الْحَسَنُ الْحَجَّامُ، وَالْقاسِمُ وَالْحَسَنُ كَنُّونُ. وَتَمْضي الْقُرونُ سَريعَةً، وَأَنا أَتَقَلَّبُ بَيْنَ أَيْدي الأُمَوِيِّينَ وَالْفاطِمِيِّينَ مِنْ جِهَةٍ، وَالْمَرينِيِّينَ مِنْ جِهَةٍ ثانِيةٍ، إلى أنْ هاجَمَنِي الْبُرْتُغالِيُّونَ يَوْمَ 21 مِنْ شَهْرِ أغسطس 1415، فَنَهَضَ كُلُّ الْمَغارِبَةِ يُدافِعونَ عَنِّي بِزَعامَةِ (حَرَكَةِ الْجِهادِ ضِدَّ السُّفُنِ الأَجْنَبِيَّةِ) وَأَذْكُرُ مِنْ بَيْنِهِمْ (أَحْمَدَ النَّقْسيسَ) الَّذي شَهِدْتُهُ بِعَيْنَيَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْ دُرُوبِي وَأَزِقَّتِي. وَفي ذَلِكَ، يَقولُ الشَّاعِرُ مُحَمَّدٌ بْنُ عَلِيٍّ الْفَشْتالِي:

هَذِهِ سَبْتَةُ تُزَفُّ عَروساً
نَحْوَ نادِيكَ في شَبابٍ قَشيبِ

وَلَمْ يَسَعْ هَؤُلاءِ الْبُرْتُغالِيِّينَ إلاَّ أَنْ يَتْرُكُونِي سَنَةَ 1580 لِيَغْزُوَنِي الإِسْبَانِيُّونَ وَيَحْتَلُّونِي. غَيْرَ أَنَّ الْمَغارِبَةَ ظَلُّوا يُدافِعونَ عَنِّي سَنَواتٍ طَويلَةً، فَلَمْ يَتَباطَأوا أوْ يَتَخاذَلوا، سَواءً في جِهادِهِمْ ضِدَّ الأَوائِلِ أوِالأَواخِرِ.

وَهُنا تَبْرُزُ بُطولَةُ الْمَرْأةِ الْمَغْرِبِيَّةِ لِتُبْعِدَ عَنِّي الْخَطَرَ، فَكانَتْ (عائِشَةُ الْحُرَّةُ) نَموذَجاً حَـيًّا لِلْبُطولَةِ وَالشَّجاعَةِ. لَقَدْ هاجَمَتِ الإِسْبانِيِّينَ بِسُفُنِها الْحَرْبِيَّةِ، وَخاضَتِ الْمَعارِكَ ضِدَّ حاكِمي (الدّونْ فونْصو). ثُمَّ جَهَّزَ الْمَوْلَى إِسْماعيلُ الْجُنودَ وَقَبائِلَ الْجَبَلِ لِيُقاتِلوا الْمُسْتَعْمِرينَ وَيُحاصِروهُمْ، فَلاَ يَخْرُجونَ مِنِّي ولاَ يَدْخُلونَ إِلَيَّ، كَيْ يَسْتَسْلِموا في الأَخيرِ!

اِقْرَئي الْكُتُبَ، تَعْرِفي الكَثيرَ عَنِّي؛ فَالْمُؤَرِّخُ ابْنُ الْقاسِمِ يَقُولُ: «كانَ في سَبْتَةَ يَومَ احْتَلَّها الْبُرْتُغالِيُّونَ أَلْفُ مَسْجِدٍ وَمِائَتانِ وَخَمْسونَ شارِعاً، واثْنانِ وَعِشْرونَ حَمَّاماً عُمُومِيًّا». وَمِنْ أبْنائِي العُلماءِ الَّذينَ أَضاؤُوا الْعالَمَ بِأَعْمالِهِمْ: الإِدْرِيسي مِنْ أَكْبَرِ عُلَماءِ الْجُغْرافِيا وَراسِمي الْخَرائِطِ. وَأَبو الْفَضْلِ عِيَّاضٌ الَّذي كانَ قاضِيا شَهيراً في عَدَدٍ مِنَ الْمُدُنِ الْمَغْرِبِيَّةِ، وأَلَّفَ عَنِّي كِتاباً ضَخْماً، عُنْوانُهُ: "تاريخُ سَبْتَةَ".

سَرَّحَتْ تِطْوانُ عَيْنَيْها الْجَميلَتَيْنِ، فَرَأَتِ الشَّمْسَ تُرْسِلُ نورَها على (مَليليةَ).

أشارَتْ بِأُصْبُعِها:

- هاهِيَ أُخْتُنا مَليلْيَةُ تَسْتَيْقِظُ شَيْئا فَشَيْئا. لِنُحَيِّيهَا مَعًا، عَلَّهَا تَشْعُرُ بِالطُّمَأْنِينةِ:

- طابَ صَباحُكِ، كَيْفَ حالُكِ؟

- كَمَا تَرَيانِي!.. مَتَى أَتَخَلَّصُ مِنَ هَذَا الْقَيْدِ الَّذي أَدْمَى يَدَيَّ؟!.. مُنْذُ عُصُورٍ، وَأَنا أَتَقَلَّبُ بَيْنَ أَيْدِي أُمَمٍ وَدُوَلٍ، فَمِنْ مَرْكَزٍِ يُعْتَقَلُ فيهِ الْمَحْكومُونَ بِالسِّجْنِ الْمُؤَبَّدِ، إلىَ ميناءٍ تَرْسُو بِهِ سُفُنُ الْفِينيقِيِّينَ والرُّومانِ وَالْقُرْطاجِينِيِّينَ، إلى بَلَدٍ يَحْكُمُهُ بَنُو يَفْرَنٍ.

وَلَقَدْ تَنَفَّسْتُ الصُّعَداءَ، عِنْدَما نَزَلَ بِي مُوسى بْنُ أَبِي الْعافِيةِ، وَرَمَّمَ بِناياتِي الْقَديـمَةَ. ثُمَّ ضَمَّنِي الأُمَوِيُّونَ إلى الأَنْدَلُسِ، وَدَخَلَني الْمُوَحِّدِيّونَ وَالْمَرينِيُّونَ، فَاعْتََنَوْا بِي، وأَنْشَأوا دُوراً وَأَسْواقاً وَمَساجِدَ. وَفي سَنَةِ 1497 يَحْتَلُّنِي الإسْبَانُ، عِنْدَما عَلِمَ نُبَلاؤُهُمْ أَنَّ مِينائِي الَّذي يُطِلُّ عَلى شاطِئِ الْبَحْرِ الأَبْيَضِ الْمُتَوَسِّطِ خالٍ مِنَ الْحامِيَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ، فَاغْتَنَمَوها فُرْصَةً، وَغَزَتْنِي قُواتُهُمُ الْعَسْكَرِيَّةُ، فَأُطْلِقَ عَلَيَّ اسْمُ (بْريسيدْيو) أَيْ (الْمُعْتَقَلُ)!..و تَشْهَدُ بَعْضُ الْمَآثِرِ الْعُمْرانِيَّةِ على هُوِّيَّتِي الْمَغْرِبِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ.كَما أنَّ سُكَّانِي الْمَغارِبَةَ، كَآبائِهِمْ وأَجْدادِهِمْ، يَشْتَغِلونَ في صَيْدِ السَّمَكِ والتِّجارَةِ!

وَالْحَقيقَةُ، يا أُخْتايَ، أَنَّنِي مازِلْتُ مُعْتَقَلَةً بَيْنَ يَدَيْ هَذا الْمُحْتَلِّ. فَمَتى أُعانِقُكُما عِناقاً حارًّا، وَأُعانِقُ كافَّةَ الْمُدُنِ الْعَرَبِيَّةِ؟!

نَزَلَتْ دَمْعَتانِ مِنْ عَيْنَيِ الْحَمامَةِ الْبَيْضاءِ، وَقالَتْ بِثِقَةٍِ:

- قَريبا، قَريبا سَنَلْتَقي، وَلَنْ نَتَخَلَّى عَنْكِ أَبَداً!

 


 

العربي بن جلون