قصصٌ من التراثِ الإسباني.. أَفْسِح الطريقَ.. يرويها : د. ناصر الكندري

قصصٌ من التراثِ الإسباني.. أَفْسِح الطريقَ.. يرويها : د. ناصر الكندري

يرسمها: علي فكري

في قرى الأندلسِ الجبليةِ كانت الشوارعُ ضيقةً والبيوتُ قريبةً من بعضِها البعضِ لدرجةِ أن سكانَها كانوا يستطيعون مصافحةَ بعضَهم البعض دون الخروج من منازِلهم.

كان يتوجّب على المشاةِ أن يفسحوا الطريقَ حتماً عند لقائهم بحمارٍ يجر عربةً، أما السلال الكبيرة المحمولة على هذه الحيواناتِ، فكانت تلامس جدرانَ البيوتِ. بالإضافةِ إلى ذلك، فسكان الجبال شعبٌ حاد الطباع ولا يطيق صبراً رؤية الحيوانِ وهو يتثاقل في المشي، لذا كان على هذا الحيوان أن يجري بمنتهى السرعةِ مما قد يؤدي إلى حوادثٍ كثيرةٍ.

ولهذا السبب قام عمدةٌ وقاضي إحدى هذه القرى بإصدارِ أمرٍ صارمٍ يقضي بأن يقوم كلُّ شخص يقود حيواناً في شوارعِ القريةِ أن يصرخَ من بعيدٍ: «افسح الطريق!» وعليه أن يصرخَ بصوتٍ عالٍ حتى يكون بإمكان الأبكم والأصم أن يسمعَ.

وكان الفلاح «سانجو» يعرفُ هذا الشيء. فقد كان يقودُ حماريه إلى سوقِ المدينةِ كلَّ يومٍ وكان يكثرُ من ضربِ الحمارين بالعصا. كان حماراه ينهبان الأرضَ نهباً وكأنهما جيادُ سباق، وكان «سانجو» قادراً أيضاً على الصراخِ عالياً أكثر من غيرِهِ.

كانت صيحتُهُ رنّانةً مثل العندليبِ حتى أن المارة كانوا يسمعون من على بُعد صوته العالي: «افسح الطريق!»، وكان عندهم الوقتَ الكافي لإخلاء الطريقِ والاختباء في مكانٍ آمنٍ.

ذات مرة ليلاً، كان «سانجو» عائداً من السوقِ مع حماريه وفجأةً رأى امرأتين في الطريقِ، وكانتا ترتديان تنورتَين واسعتَين وطرحتَين أنيقتين مزركشتين بالدنتلا. من الممكنِ أنهما كانتا بصددِ زيارة أحد ما، لكنهما التقيتا صدفةً وبدأتا بالحديثِ. وكان هذا الحديث حامياً، هذا لم يكن حديثاً، إنما كان نقاشاً حقيقياً، لأنهما كانتا تلوحان بأيديهما، وكانت كلُّ واحدة منهما تحاولُ أن تصرخَ أكثر من الأخرى بكلِّ ما أوتيت من قوةٍ. عندئذٍ ضرب «سانجو» حماريه بالعصا وصرخ بأعلى صوتِهِ وبكلِّ ما استطاع من قوةٍِ: «افسحوا الطريق!».

لكن السيدتين كانتا مشغولتين بالنقاشِ الذي تطوّر إلى حد أن تشبت كلُّ واحدة بشعر الأخرى ولم تهتما لصرخات «سانجو».

أدرك الحمارُ أن الوضعَ سيئ وأنه بعد دقيقة واحدة ستحدث مصيبةٌ، عندئذ بدأ بالصراخِ مرةً أخرى بأعلى صوتِه حتى أنه بدا أن صراخ «سانجو» قد سمعه مَن كان يسكنُ في مكانٍ بعيدٍ جداً.

لكن حتى صراخَه بأعلى صوتِهِ لم يمنع من وقوع ما حدث. حيث إن الحمارَين اصطدما بالسيدتين اللتين سقطتا على الأرضِ وقد توسّخت طرحتاهما بالترابِ.

وعلى الفورِ هبّتا واقفتين متناسيتين الخصومةَ، وانقضتا على «سانجو» الذي لا ذنب له.

صرختا عليه في وقتٍ واحدٍ: أيها الوقح! إلى أين تقود حماريك؟ سيجبرك القاضي على دفعِ ثمن ملابسَنا المتسخة. ومن دون أن يضيعا الوقت اتجهتا إلى منزلِ القاضي.

لكن «سانجو» أيضاً لم يقف متفرجاً وكان يخاطب نفسَه:

- «إذا وصلتا قبلي إلى القاضي، فسأكون أنا المذنبُ. لكن إذا وصلت قبلَهما فأستطيع أن أبرئ نفسي».

ترك حماريه في أولِ حوشِ منزلٍ يصادفه وذهب عبر البساتين وأسوار المنازل إلى القاضي بأسرع ما يمكن. وصل «سانجو» إلى القاضي قبل السيدتين وأخبره بكل ما حدث وبكل صراحةٍ.

استمع القاضي إلى الفلاحِ وبعد تفكير قال له:

- مساعدتك لن تكون سهلة، لأنه لا أحد يستطيع أن يبرهن أنك بالفعلِ حذّرت هاتين السيدتين بالصراخِ، وأستطيع أن أنصحك بشيء واحدٍ فقط وهو أنه مهما قالتا لك ومهما اتهمتاك به فالزم الصمت. حتى لو أني اتهمتك ظلماً فأيضاً الزم الصمت. حتى لو أمرت بأن يأخذوك إلى السجنِ، لا تتفوّه بأي كلمةٍ. أنا أريد أن تعتبرك السيدتان أبكم. وفي هذا خلاصك. هذا ما قاله القاضي. ونادى على اثنين من حرّاس الشرطةِ وأمر بأن يرافقا الفلاحَ إلى قبو المبنى حيث ينتظر المذنبون المحاكمةَ. وحدث هذا في الوقتِ المناسبِ لأنه في نفسِ الوقتِ اقتحمت السيدتان المحتدمتان غيظاً المبنى. كانتا تصرخان تقاطع كل منهما الأخرى بأن حمارين أسقطاهما أرضاً، ومزّقا ملابسَهما ومرّغا بالترابِ الطرحتينِ المزركشتين. والحمارُ الثالثُ حتى لم يبذل جهداً بتحذيرهما بالصراخِ. وهو بذلك قد خالف أمر القاضي ويجب عليه أن يشتري لهما طرحتينِ جديدتينِ.

ضربَ القاضي بكفّيه فاقتاد الشرطيان «سانجو» الحزين. كان سؤال القاضي للفلاحِ صارماً:

- أيها الفلاح «سانجو»، ألا تعلم بأمري الصارم؟ لماذا لم تصرخ: «افسح الطريق» عندما كنت تقود حماريك عبر شارع القريةِ؟

لكن «سانجو» لم ينبس بكلمةٍ ولزم الصمت.

قال القاضي: أجب أيها الفلاح!

لكن الفلاح استمر في الصمتِ.

هدّده القاضي: إذا كنت تريد أن تسخر مني، سأرسلك إلى السجنِ!

وأيضاً لم يرد الفلاح على هذه الكلماتِ المخيفةِ.

عندئذ أخذ القاضي ورقةً وغمس الريشةً في المحبرةِ وكما لو أنه كان سيصدر الحكم، لكنه بعد تفكير وضع الورقةَ جانباً.

بعد أن هزّ كتفيه قائلاً للشاكيتين:

أيتها السيدتان الموقرتان، يبدو لي، أنني لا أستطيع أن أحكم على هذا الشخصِ. كما تريان فهو أبكمٌ وغير مسئول عن أفعالِهِ.

هذا القرارُ لم يعجب السيدتين. وأدركتا أنهما لن تحصلا على أي قرشٍ من هذا «الأبكم» تعويضاً عن الطرحتين الممزقتين وبدأتا بالصراخِ في آن واحدٍ:

- أهو فعلاً أبكم؟ إن هذا المحتال بكل بساطةٍ يسخرُ منك ياحضرة القاضي! إنه ذو حنجرة قوية حيث إن صرخته «افسح الطريق!» «افسح الطريق!» كانت مسموعة في كل الشارع وكان يصيح بأعلى صوته!

هنا انفجر القاضي ضاحكاً:

- اذهبا إلى بيتيكما أيتها الحسناوتان. هل أدركتما ما قلتاه لي الآن؟ لقد شهدتما بنفسيكما بأن «سانجو» نفّذ أمري وحذّركما بصراخِه العالي! لذا يتوجّب عليكما إصلاح العباءتين بنفسيكما.

انصرفت السيدتان وقد أصابهما الخجلُ بينما أمر القاضي حراس الشرطةِ بإطلاقِ سراح الفلاح.

 


 

ناصر الكندري