صَديقَتي السَّحابَةُ في جيبوتِي.. قصة: العربي بنجلون
صَديقَتي السَّحابَةُ في جيبوتِي.. قصة: العربي بنجلون
رسوم: أشرف الأسدي هاهِيَ صَديقَتِي السَّحابَةُ تَظْهَرُ في سَمائِنا الصَّافِيَةِ الزَّرْقاءِ، لِتَسْقُطَ مَطَراً فَوْقَ سُهولِنا الْخَضْراءِ، لَكِنَّنِي أُشيرُ لَها بِرَأْسي ويَدَيَّ أَلاَّ تَفْعَلَ، وتَبْتَعِدَ عَنْ بِلادي! سَأَلَتْنِي مُتَعَجِّبَةً: كَأَنَّكَ تَمْنَعُنِي مِنْ سَقْيِ هَذِهِ الأَراضي الْخِصْبَةِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟! أَجَبْتُها مُوافِقاً: أَجَلْ، أَيَّتُها الصَّديقَةُ السَّخِيَّةُ!..لَكِنْ، إذا عُرِفَ السَّبَبُ، بَطُلَ الْعَجَبُ! فَكَّرَتْ قَليلاً، ثُمَّ سَأَلَتْ ثانِيَةً: أَهُناكَ مَنْ لا يُحِبُّ الْمَطَرَ، لِيَسْقِيَ أَرْضَهُ الْيابِسَةَ، وحَيَواناتِهِ الْعَطْشى، ويَجِدَ ما يَشْرَبُهُ ويَسْتَحِمُّ بِهِ؟! قاطَعْتُها باسِماً: حَقّاً ما قُلْتِ، صَديقَتِي، لا يوجَدُ في هَذِهِ الدُّنْيا مَنْ يَكْرَهُكِ، فَنَحْنُ بِكِ نَكونُ أوْ لا نَكونُ. أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعالى: وجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ؟! قالَتْ مُسْتَغْرِبَةً: واللَّهِ، ياصَديقي، لَقَدْ حَيَّرْتَنِي بِكَلامِكَ، ولا أَدْري كَيْفَ أَفْهَمُكَ!..فتارَةً تَنْصَحُنِي بِأَنْ أَبْتَعِدَ عَنْ بِلادِكَ، وتارَةً تَجْعَلُنِي ضَرورِيَّةً لِحَياةِ الْكائِناتِ! أَفْهَمْتُها قائلاً: يَنْبَغي أنْ تَعْرِفي أنَّ (الشَّيْءَ إذا زادَ عَنْ حَدِّهِ، انْقَلَبَ إلى ضِدِّهِ) فَأَرْضي غَنِيَّةٌ بِالْمِياهِ، تَتَوَفَّرُ على سُدودٍ مُمْتلِئَةٍ، وأَنْهارٍ جارِيَّةٍ، ومِياهٍ جَوْفِيَّةٍ، وتُطِلُّ على بَحْرَيْنِ كَبيرَيْنِ، هُما الْبَحْرُ الأَبْيَضُ الْمُتَوَسِّطُ والْمُحيطُ الأَطْلَسِيُّ، فَإذا سَقَطْتِ، فَإنَّكِ سَتُحْدِثينَ فَياضاناتٍ، تَقْضي على الْبَشَرِ والنَّباتاتِ والْحَيَواناتِ، وتَتْرُكينَ خَلْفَكِ فَلاَّحينَ مُشَرَّدينَ...! رَدَّتْ عَلَيَّ مُوافِقَةً: شُكْراً، صَديقي، لأَنَّكَ نَبَّهْتَنِي إلى خَطَرٍ كَبيرٍ سَها ذِهْنِي عَنْهُ!..لَكِنْ، ماذا سَأَفْعَلُ، وأَنا حُبْلى بِهَذِهِ الْكَمِّيَّةِ الْهائِلَةِ مِنَ الْمَطَرِ، وساعَةُ وَضْعِي أَوْشَكَتْ؟! أَجَبْتُها ناصِحاً: ما عَلَيْكِ، صَديقَتِي، إلاَّ أَنْ تَقْصِدي (جيبوتِي) فَأَراضيها الَّتِي تَبْلُغُ مِائِتَيْنِ وثَلاثَةً وعِشْرينَ ألْفاً ومِائَتَيْ كيلومِتْرٍ مربع في حاجَةٍ إلى مَطَرِكِ الْغَزيرِ! وأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ الْبِلادُ؟! في الشَّمالِ الشَّرْقِيِّ لإفْريقْيا على خَليجِ عَدَنَ، بيْنَ إريتِرْيا في الشَّمالِ، وإِثْيوبْيا في الْغَرْبِ، والصُّومالِ في الْجَنوبِ، والْبَحْرِ الأَحْمَرِ في الشَّرْقِ! لَمَعَتْ عَيْناها: إذَنْ، هِيَ دَوْلَةٌ عَرَبِيَّةٌ وإفْريقِيَّةٌ في قارَّتِكَ السَّمْراءِ، لا تَبْعُدُ عَنْكَ كَثيراً. فَلْنَنْقُلْ لَها حالاً هَذا الْمَطَرَ! صِحْتُ فَرِحاً: بِكُلِّ سُرورٍ، مادُمْنا سَنُنْقِذُ بَلَداً عَرَبِيّاً صَغيراً مِنَ الْعَطَشِ والْجَفافِ. ولِيَكُنْ هَذا الْغَيْثُ هَدِيَّةً لَها بِمُناسَبَةِ عيدِ اسْتِقْلالِها في 27 يونيو 1977! في الْحينِ، هَبَطَتِ السَّحابَةُ الثَّقيلَةُ شَيْئاً فَشَيْئاً، حَتَّى بَلَغَتْ كَتِفَيَّ، فَأَمْسَكْتُ بِطَرَفِها، وقَفَزْتُ بِخِفَّةٍ فَوْقَها، فَشَعَرْتُ بِبَرْدٍ قارِسٍ يَسْري في أَطْرافِي. ولَمَّا صَعِدَتْ بِي عالِياً، وأَرْسَلَتِ الشَّمْسُ أَشِعَّتَها، أَحْسَسْتُ بِشَيْءٍ مِنَ الدِّفْءِ! سارَتْ بِي تَجْتازُ دُوَلاً عرَبِيَّةً وإفْريقِيَّةً، حَتَّى وَصَلَتْ إلى جيبوتِي، فَشَعْرْنا بِحَرٍّ شَديدٍ، يَبْلُغُ سَبْعاً وثَلاثينَ دَرَجَةً، وبِـ(رِياحِ الْخَمْسينَ) الْجافَّةِ تَهُبُّ عَلَيْنا حامِلَةً مَعَها الْغُبارَ، فَتَرانِي، بَيْنَ الْفَيْنَةِ والأُخْرى، أَنْفُضُ ثِيابِي، وأُبَلِّلُ حَلْقي بِماءِ السَّحابَةِ الْبارِدِ..! وتَأَمَّلْنا الأَرْضَ، فَإذا هِيَ صَحْراءُ قاحِلَةٌ، تَكادُ تَخْلو مِنَ النَّباتِ. وفي شَمالِها جِبالٌ صَخْرِيَّةٌ بُرْكانِيَّةٌ، كَأَنَّكَ تَنْزِلُ على سَطْحِ الْقَمَرِ؛ فَهَذا جَبَلُ (موسى) تَعْلو قِمَّتُهُ أَلْفَيْنِ وثَمانِيَةً وسِتِّينَ مِتْراً، وذاكَ (جودَةُ) يَرْتَفِعُ بِأَلْفٍ وسَبْعِمِئَةٍ وخَمْسَةَ عَشَرَ مِتْراً، وهُنا (مَبْلي) بِأَلْفٍ وثَلاثِمِئَةِ مِتْرٍ، وهُناكَ (أَرايْ) بِـأَلْفٍ ومِئَتَيْ مِتْرٍ..! ونَحْنُ كَذَلِكَ، إذا بِطِفْلٍ في سِنِّي يَحْمِلُ على جَمَلِهِ بِرْميلاً كَبيراً، ويُشيرُ بِيَدَيْهِ أَنْ نَنْزِلَ، فَاسْتَجابَتْ لَهُ صَديقَتِي السَّحابَةُ، وهَبَطَتْ رُوَيْداً رُوَيْداً، حَتَّى كادَتْ تَلْمَسُ رَأْسَهُ: ماذا تُريدُ، أيُّها الطِّفْلُ الْجيبوتِيُّ؟! أَجبْتُها ضاحِكاً: أَلا تَرَيْنَهُ، أَيَّتُها (الذَّكِيَّةُ جِدّاً) يَحْمِلُ بِرْميلاً على جَمَلِهِ؟! اِحْمَرَّ خَدَّاها الْمُمْتَلِئَانِ خَجَلاً، وقالَتْ لَهُ: أَعْتَذِرُ، طِفْلي، لَقَدْ ضَرَبَتْنِي الشَّمْسُ، فَأَصابَتْنِي بِدُوارٍ، ولَمْ أَعُدْ أُمَيِّزُ شَيْئاً!..اِنْتَظِرْ قَليلاً، سَأَمْلأُ بِرْميلَكَ ماءً نَقِيّاً، وأَسْقي كُلَّ هذِهِ الْمِنْطَقَةِ الْيابِسَةِ! شَكَرَها الطِّفْلُ، وجَلَسَ الْقُرْفُصاءَ تَحْتَها، يَسْتَظِلُّ بِظِلِّها، أَمَّا أَنا فَلَمْ أَجِدْ بُدّاً مِنْ أَنْ أَقْفِزَ إلى الأَرْضِ، وأَتَّخِذَ مَكانِي بِجانِبِهِ، كَأَنَّنا صَديقانِ، أَوْ قُلْ أَخَوَيْنِ شَقيقَيْنِ! فاجَأَتْنا السَّحابَةُ بِمَطَرِها، ونَحْنُ جالِسانِ، فَقُمْنا بِسُرْعَةٍ، ورَكِبْنا الْجَمَلَ نَحُثُّهُ على السَّيْرِ، فَانْطَلَقَ بِنا يَعْدو مِنْ هُنا إلى هُناكَ، مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ إلى أُخْرى، فيما السَّحابَةُ تَضْحَكُ مِنَّا، وتُرْسِلُ مَطَرَها نَحْوَنا، فَيَتْبَعُنا أَنَّى سِرْنا، لِيُبَلِّلَ رَأْسَيْنا، كَأَنَّهُ رَشَّاشٌ. لَكِنْ، ما أَنْ تَمُرَّ دَقيقَةٌ أَوْ دَقيقَتانِ، حَتَّى نَنْشَفَ، وتَنْشَفَ مَلابِسُنا، بِفِعْلِ مَوْجَةِ الْحَرِّ الْقَوِيَّةِ! يَجِبُ أنْ نَسيرَ رِجْلاً بِرِجْلٍ، لاتُفارِقُنِي بُرْهَةً، كَيْلا تتوه في هَذِهِ الصَّحْراءِ الشَّاسِعَةِ، ياصَديقي....! قالَ الطِّفْلُ، فَأَجَبْتُهُ: أَحْمَدُ، يا صَديقي....! عَلِيٌّ!..يَظْهَرُ لي أَنَّكَ تَزورُ بِلادي لأَوَّلِ مَرَّةٍ! نَعَمْ، ولَوْلا صَديقَتي السَّحابَةُ الَّتي حَمَلَتْني على ظَهْرِها، لَشَقَّ على قَدَمَيَّ أنْ تَصِلا هَذِهِ الأَرْضَ الطَّيِّبَةَ!..ألا أَجِبْنِي: أَراكَ تُحَدِّثُنِي بِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ فَصيحَةٍ؟! أَجَلْ، أَخي!..نَحْنُ دَوْلَةٌ عَرَبِيَّةٌ، لُغَتُنا الرَّسْمِيَّةُ هِيَ الْعَرَبِيَّةُ، ولَنا لَهجاتٌ نَتَكَلَّمُ بِها كَالصُّومالِيَّةِ وتَلَعْفَرْ، كَما أَنَّ اللُّغَةَ الثَّانِيَةَ هِيَ الْفَرَنْسِيَّةُ..! ولَكِنَّ اسْمَ (جيبوتِي) غَيْرُ عَرَبِيٍّ؟! لا، إنَّهُ عَرَبِيٌّ، يَتَكَوَّنُ مِنْ كَلِمَتَيْنِ، كانَ الصَّيادونَ يتداولونَهُما في ميناءِ الْعاصِمَةِ: فِعْلُ أَمْرٍ (جِئْ) واسْمٌ (حوتِي) أَيْ (جِئْ بِحوتِي) وحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ مِنَ الأَوَّلِ، والْحاءُ مِنَ الثَّانِي تَخْفيفاً. وهَذا يوجَدُ في كُلِّ اللَّهَجاتِ، فَالْمِصْرِيُّونَ يَقولونَ: وادْ (وَلَدٌ) وبِتْ (بِنْتٌ) والْمَغاربةُ: جِتْ (جِئْتُ) وهَكَذا..! وسَكَتَ عَلِيٌّ، ثُمَّ عادَ لِيَقولَ لِي باسِماً: وكَيْفَ لانَتَكَلَّمُ الْعَرَبِيَّةَ، ونَحْنُ عَرَفْنا الإسْلامَ والْقُرْآنَ قَبْلَ الْمَدينَةِ الْمُنَوَّرَةِ؟! وَضَعْتُ يَدي على جَبينِهِ، أَقيسُ حَرارَتَهُ: يَظْهَرُ لي أَنَّ حُمًّى أَصابَتْكَ، هَلْ تُريدُ ماءً يُبَرِّدُ رَأْسَكَ؟! اِعْتَرَضَ بِثِقَةٍ: لا داعِيَ إلى ماءٍ أوْ دَواءٍ، فَأَنا لا أَقولُ إلاَّ الْحَقيقَةَ! .. والآنَ، اسْمَعْنِي جَيِّداً: لَمَّا آذَتْ قُرَيْشٌ الْمُسْلِمِينَ، أَمَرَ الرَّسولُ الْكَريـمُ أَصْحابَهُ بِأَنْ يُهاجِروا إلى الْحَبَشَةِ، الَّتي كانَ يَحْكُمُها الْمَلِكُ الْعادِلُ (النَّجاشي). وكانَتِ الْحَبَشَةُ، آنَذاكَ، تَضُمُّ إريتِرْيا والصُّومالَ وإِثْيوبْيا وجيبوتِي. وعِنْدَما أتى الْمُهاجِرونَ الأَوائلُ، مَرُّوا بِالْمُدُنِ التَّالِيَةِ: (تَجورانُ) الَّتي توجَدُ في شَمالِ بِلادي، و(زيلَعُ) و(بَرْبَرا) بِشَمالِ الصُّومالِ، و(مَصوعُ) بِإريتِرْيا. ثُمَّ تَبِعَهُمْ مُهاجِرونَ آخَرونَ، وفي طَريقِهِمْ كانوا يَنْشُرونَ الإسْلامَ، ويُلَقِّنونَ أَجْدادي اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ. كانَ هَذا قَبْلَ أَنْ يُهاجِرَ الرَّسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ صُحْبَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إلى الْمَدينَةِ. وتوالى الْمُهاجِرونَ في عَصْرِ الْخَليفَةِ عُثْمانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَما هاجَرَ بَعْضُ أَفْرادِ آلِ بَيْتِ النَّبِيِّ في عَهْدِ الأَمَوِيِّينَ. وفي الْقَرْنِ الْعاشِرِ حَلَّ بِها كَثيرٌ مِنَ التُّجَّارِ الْعَرَبِ، والْقَبائلُ مِنْ إِثْيوبْيا كَـ(عَفَّارٍ) ومِنَ الصُّومالِ كَـ(عيسى). ثُمَّ الْفَرَنْسِيُّونَ سَنَةَ 1862 فَاسْتَقَرّوا بِمَديـنَةِ (أوبوكَ) بِالشَّاطِئِ الشَّمالِيِّ لِخَليجِ (تاجورا) وعلى شاطِئِهِ الْجَنوبِيِّ بَنَوْا ميناءَ جيبوتِي عامَ 1888 ومَدُّوا السِّكَّةَ الْحَديدِيَّةَ مِنْهُ إلى عاصِمَةِ إِثْيوبْيا (أَديس أَبابا). لَمْ يَسَعْنِي إلاَّ أنْ أَعْتَذِرَ لَهُ: عُذْراً، أَخي، أنا الَّذي أصابَتْنِي الْحُمَّى، فَلَوْ كُنْتُ أَقْرَأُ الْمَجَلاَّتِ والْكُتُبَ، لَمَا غابَتْ عَنْ بالِي هَذِهِ الْمَعْلوماتُ التَّاريـخِيَّةُ، فَشُكْراً لَكَ! قالَ، والاِبْتِسامَةُ لاتُفارِقُ وَجْهَهُ الأَسْمَرَ الْجَميلَ: حَقّاً ما قُلْتَ!..اَلْقِراءِةُ كَالدَّواءِ، تُزَوِّدُ الْعَقْلَ بِما يَنْفَعُهُ مِنْ مَعْرِفَةٍ غَنِيَّةٍ. فَأَنا، مَثَلاً، مِنَ الْبَدْوِ الرُّحَّلِ، لَكِنَّنِي أَسْتَغِلُّ فُرْصَةَ سَفَري إلى الْمَدينَةِ، لأَشْتَريَ مَجَلَّةً أوْ كِتاباً! وأَخَذَنِي مِنْ يَدي قائلاً: دَعْكَ مِنَ الْقيلِ والْقالِ، وتَعالَ مَعي تُشاهِدْ بِعَيْنَيْكَ عاصِمَتَنا (جيبوتِي)..إنَّها أَكْبَرُ مُدُنِنا، فَشَوارِعُها فَسيحَةٌ ونَظيفَةٌ، تَكْثُرُ فيها الْحَرَكَةُ، لَيْلَ نَهارَ، لأَنَّ سُكَّانَها لا يَأْبَهونَ بِالْحَرِّ الشَّديدِ، ولَوْ بَلَغَ سَبْعاً وأَرْبَعينَ دَرَجَةً. ولِكَيْ يَتَغَلَّبوا عَلَيْهِ، يَقْصِدونَ ضَواحِيَها الْجَميلَةَ، الَّتي تَكْثُرُ فيها أَشْجارُ النَّخيلِ، والْبَساتينُ والْكُهوفُ، والْحَيَواناتُ الطَّليقَةُ، مِثْلَ الأَيْلِ والْغِزْلانِ.. وإذا ذَهَبْتَ إلى شاطِئِها تَرى عِقْداً مِنَ الْجُزُرِ، توجَدُ في مِياهِها الأَعْشابُ الْمَرْجانِيَّةُ، والأَسْماكُ الْمُلَوَّنَةُ. وشَبابُنا يَقْضونَ بِها أَوْقاتَ فَراغِهِمْ، فَيُزاوِلونَ رِياضَةَ الْعَدْوِ والْغَطْسِ والْغَوْصِ والتَّزَحْلُقِ على الأَمْواجِ!..وهُناكَ مُدُنٌ أُخْرى، كَـ(تاجورا، أوبوكْ، عَلي صَبيحْ، ديـخيلْ..) ومَحْمِيَّاتٌ طَبيعِيَّةٌ، تَعيشُ فيها حَيَواناتٌ وطُيورٌ قَليلَةُ الْوُجودِ، وأَشْجارٌ مُعَمِّرَةٌ. وبُحَيْراتٌ، كَـ(مالِِحَةٍ) تَصِلُ مِساحَتُها مِئَةً وخَمْسَةَ عَشَرَ مِتْراً، وبُحَيْرَةُ (عسَلٍ) وسِواها..! ونَحْنُ نَسيرُ مِنْ حَيٍّ إلى حَيٍّ، نَتَجَوَّلُ بَيْنَ حَدائقَ غَنَّاءَ، وأسْواقٍ تَعْرِضُ مَطاعِمُها الأُكْلَةَ الْمُفَضَّلَةَ (السَّمَكَ الْمَشْوِيَّ) إذْ بِأَرْجُلِنا تَقودُنا إلى الْميناءِ، فَوَجَدْنا إحْدى السُّفُنِ تَسْتَعِدُّ لِلرَّحيلِ، بَعْدَ أَنْ شَحَنَتْ مايَكْفيها مِنْ جُلودٍ، وأَكْياسِ الْمِلْحِ والْبُنِّ والتَّمْرِ والْمَلابِسِ الْمُلَوَّنَةِ، وغَيْرِها مِنَ السِّلَعِ الَّتي تُصَدِّرُها جيبوتِي! عانَقْتُ عَلِيّاً، وأَنا أُقَدِّمُ لَهُ وَرَقَةً مَطْوِيَّةً: ـ وَداعاً، أَخي، سَأَعودُ إلى بِلادي، ولَكَ مِنِّي هَذِهِ الْهَدِيَّةَ! بَسَطَ الْوَرَقَةَ، فَوَجَدَ فيها قَصيدَةً حَوْلَ رايَةِ جيبوتِي: أَلْوانُ عَلَمي اِرْتَسَمَتْ على وَجْهِهِ ابْتِسامَةٌ: شُكْراً، أَخي!..سَأَحْتَفِظُ بِهَذِهِ الْهَدِيَّةِ الْغالِيَةِ طولَ حَياتِي! قالَ عَلِيٌّ، فيما كانَتِ السَّفينَةُ تُبْحِرُ بِي، وعَيْناهُ لا تُفارِقانِي..!
|