صوره: سليمان حيدر

هذا هو حواري الأول مع ملك الغابة، وجهًا لوجهٍ. ففي كل مرة كنتُ أراهُ وراءَ الأسوار، أو أشاهدُه داخلَ الأقفاص. هناك يكونُ حزيناً صامتاً لأنه محرومٌ من حريتِه. يريدُ أن يعيش طليقاً في غابتِه. أن ينطلقَ على سجيتِه. أن يمشيَ فلا توقفهُ أسلاكٌ شائكة. أن ينامَ تحتَ ظلِّ شجرةٍ، فيتأملُ السماءَ ونجومَها التي لا تُحصى، لا أن ينامَ في غرفٍ ضيقةٍ يتدلى من سقفها مصباحٌ وحيد، لا يتحكمُ في وقتِ إضاءتِهِ، أو موعدِ إطفائِهِ.

لكي نجدَ أسدًا حرًّا يعملُ ملكًا لغابته كان علينا أن نسافرَ إلى بلادٍ تقيمُ مناطقَ مخصصة للحيوانات الطليقةِ. لذلك سافرنا إلى «منتزه الأسد» شمال غرب مدينة جوهانسبرج، إحدى العواصم الثلاث لجمهورية جنوب إفريقيا. العاصمتان الأخريان هما: بريتوريا، وكيب تاون.

كنتُ أشعرُ بالإثارةِ وأنا أتجه مع زميلي المصوِّر إلى «منتزه الأسد» ، ومعنا السيد هيكتور سائق الحافلة التي ستتوغل بنا إلى داخل أدغال الغابة.

عندَ بوابة الغابة، قطعنا التذاكر. كان سعر التذكرة الواحدة 115 راند، والراند هو عملة جمهورية جنوب إفريقيا، وعلى العملات الورقية صور لكل الحيوانات التي تعيش هناك. كانت هناك تذكرة إضافية تمكننا من دخول عرين الأشبال الصغار، أبناء الأسد الكبير، وتسمح لنا بمجالستهم ومداعبتهم والتربيت فوق ظهورهم، والتقاط الصور معهم.

لم يكن الأسدُ ملكُ الغابة يعيشُ وحده في «منتزه الأسد»، ففي الطريق إليه رأينا قطيعًا من الحمير الوحشية المميزة بخطوطها السوداء والبيضاء، وهي من فصيلة الخيليات، وتعيش في المناطق الحارّة الجافّة شبه الصحراويّة، والمناطق الجبليّة من أفريقيا الشرقيّة والجنوبيّة، وتتغذّى على الأعشاب والشجيرات الغضّة. قرب ذلك القطيع كانت هناك مجموعات أخرى من الغزلان والجاموس البري.

توقفنا قرب السور الذي تعيش وراءه زرافتان هائلتا الحجم، طويلتا العنقين. اشترينا كيسًا مليئًا بطعام خاص بهما، لأن القائمين على المنتزه حذرونا من إطعام الحيوانات طعامًا غريبًا، قد يسبب المرض، أو عسر الهضم. حين بدأتُ بإطعام إحدى الزرافتين غارت الأخرى، لذلك قررتُ أن أطعمهما معًا، في الوقت نفسه. أسرعت نعامة ضخمة لتلتهم بعضاً من الطعام المتاح، من زوار آخرين.

فتحت زجاج نافذة السيارة، وتوجهتُ بالحديث إلى ملك الغابة. قلتُ له إنني سافرت مسافة بعيدة جدًّا حتى ألقاه. فأجابني والابتسامة الهادئة على وجهه:

«أعتقد أنك رأيت ما يستحق الزيارة، فربما تكون قد التقيت بأسود ولبؤات في كل مكان بالعالم، لكن هؤلاء يعيشون محبوسين، أما أنا وعائلتي وأصدقائي، فننعمُ بالحرية».

سكت قليلا وأضاف:

«.. والأهم أنك ستجد معنا، قريبًا من المكان الذي تقف فيه سيارتكم الآن، نوعًا نادرًا من عائلتنا، هو الأسد الأبيض! لقد ظهر أجداده في جنوب أفريقيا للمرة الأولى قبل 80 سنة، ولكن العائلة الحالية هي أحفاد اثنين من الأشبال البيض، ولدا في العام 1975 بمنتزه كروجر الوطني في جنوب إفريقيا، ضمن مجموعة من أشبال أخرى تجمع بين اللون الذهبي واللون القريب من اللون الأبيض».

دُهشتُ وأنا أسمع عن الأسد الأبيض. كانت مفاجأة مشرقة. حكى لي ملك الغابة عن العائلة البيضاء الصغيرة التي تم رعايتها في محمية بمدينة بريتوريا، وكانت أسماء تلك الأشبال تيمبا ويعني (أمل) بلغة الزولو، إحدى 11 لغة رسمية في جنوب أفريقيا، بينما كان هناك شبل آخر اسمه تومبي، ومعناه زواج، وشبل ثالث هو بوما، ويعني الاستثنائي، وشبل أخير هو فيلا، ومعناه مفاجأة.

بعد حوار ممتع، استأذن مني الأسد قائلا:

«حان الآن موعد وجبتي الأسبوعية، فالطعام هنا مرة واحدة في الأسبوع فقط، لأننا لسنا في غابة مفتوحة، بل يأتينا حراس المنتزه بوجبة خاصة، لي ولعائلتي. ولكن لا تنسوا قبل مغادرتكم أن ترسلوا تحيتي إلى أحفادي الأشبال الذين يعيشون قرب البوابة!».

كنتُ أريدُ أن أصافحه مودِّعًا، أو أعطيه عملة ورقية عليها صورته لكي يوقعها لي ببصمة مخالبه، لكنني راجعتُ الإرشادات التي كتبوها عند دخول المنتزه، بأن الدخول مسئوليتنا وحدنا، وأن علينا ألا نغادر سياراتنا، وألا نصحب الكلاب أو الأسلحة النارية، وألا نفتح النوافذ.. سارعت بإغلاق النافذة فقد اقترب ملك الغابة كثيرًا وخشيت أن يبدل الوجبة التي أعدها له الحراس بالتهام ثلاثتنا..

حينما غادرت العائلة الأولى للأسود، عرفت أن هناك في المنتزه 75 أسدًا من مختلف الأعمار، وأن الأسد الذي حدثني كان عمره 15 عامًا لذلك يُعتبر عجوزًا، والأسود مقسمة على أربعة منتزهات، إحداها تسكنه الأسود البيضاء.

عند وصولي إلى المنطقة الثانية، وجدتُ عائلة أخرى تلتهم وجبتها الأسبوعية. ولدهشتي فإن إحدى الإناث التي انتهت من وجبتها كانت تبحث عن جذع شجرة لتنظف اللحم من بين أسنانها. تذكرت أننا نستخدم تلك العصي الخشبية أو البلاستيكية الصغيرة لنفعل الشيء نفسه، لأن أسرتنا علمتنا ذلك، فمن علم الأسود أن تنظف أسنانها؟

عرفت أن الأسود البيضاء هي الأكثر عرضة للخطر في الغابات، لأنها تبدو واضحة للصيادين، وأن هذا اللون الأبيض ليس سوى تنويع للون الذهبي، وأن بعض التنويع قد يقترب بلون الأسد إلى اللون الأحمر.

في الطريق مررنا بحيوان شرس، إنه من الثدييات التي تلد وترضع صغارها، وهو حيوان مفترس من الحيوانات التي تعتاش على أكل الجيف (جثث الحيوانات) وبقايا صيد وفرائس الحيوانات الأخرى، وهو صياد ماهر كذلك، ويتميز بقوة فكيه الهائلة، فهو يمكنه سحق العظام بأنيابه، لم يكن ذلك سوى الضبع.

تطبيقا لوصية ملك الغابة، اتجهنا إلى مزرعة الأشبال، سمحوا لنا بأن ندخل إلى تلك الأسود الصغيرة، التي توضح لنا تشابه الأسود والقطط، فهي من عائلة واحدة. جلسنا قربها، بينما المدربة تحذرنا من لمس الذيول. فهي هادئة إلا إذا شدَّ أحدهم ذيلها.

كانت الأسود تتقلب تحت الشمس. عما قريب، وربما بعد عام، ستتجه للعيش مع أبيها وجدها، وساعتها، سيكون لنا حوار آخر معها، في زيارة قادمة.