حي الأغراس

حي الأغراس

رسوم: حلمي التوني

يُسَمَّى حَيُّنَا: حَيَّ الْأَغْرَاس، وَرَغْمَ أَنَّهُ يَحْمِلُ هَذَا الاِسْم، لَم تَكُنْ بِهِ أَغْرَاس، فَلاَ وُجُودَ لِحَدِيقَةٍ يَتَنَزَّهُ فِيهَا الأَطْفَالُ وَالْمُسِنُّونَ مِنَ الْمُتَقَاعِدِين. وَكَانَ ذَلِكَ يُثِيرُ الْكَثِيرَ مِنَ الاِسْتِغْرَاب، وَحَيْثُ يَتَسَاءَلُ سُكَّانُ الْحَيّ:

لِمَاذَا سَمَّتِ البَلَدِيَّةُ حَيَّنَا بِحَيِّ الْأَغْرَاس، وَهِيَ لَمْ تَزْرَعْ بِهِ شَجَرَةً وَاحِدَة؟

ظَلَّ سُكَّانُ الْحَيِّ يَنْتَظِرُونَ مِنَ البَلَدِيَّةِ أَنْ تُنْشِئَ حَدِيقَةً يَمْرَحُ فِيهَا الْأَطْفَال، وَيَتَنَزَّهُ فِيهَا الْمُسِنُّون، وَلَكِنَّهَا تَقَاعَسَتْ فِي ذَلِك.

زَارَ مُمَثِّلُونَ لِسُكَّانِ حََيِّ الْأَغْرَاسِ مَنْ يُمَثِّلُهُمْ فِي الْمَجْلِسِ الْبَلَدِيَ، وَاسْتَفْسَرُوه عَنْ وَضْعِيَّةِ الْحَيِّ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ حَدِيقَةٍ وَتَشْجِيرٍ لِلأَرْصِفَة، فَمَا كَانَ مِنْهُ إِلاَّ أَنْ اعْتَذَرَ لَهُمْ بِأَنَّ مِيزَانِيَّةَ الْمَجْلِسِ الْبَلَدِيِّ لاَ تَفِي فِي الْوَقْتِ الرَّاهِنِ بِذَلِك، وَوَعَدَهُمْ بِتَحْقِيقِ الْمَطْلُوبِ فِي أَجَلٍ قَرِيب.

وَلَمَّا لَمْ يَتَحَقَّقْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِك، فَقَدْ زَارُوا رَئِيسَ الْمَجْلِسِ الْبَلَدِيِّ في مَكْتَبَه، فَكَرَّرَ عَلَى مَسَامِعِهِمْ نَفْسَ الْكَلاَم.

كََانَ مِنْ بَيْنِ سُكَّانِ الحَيِّ مُعَلِّمٌ طَمُوحٌ اِسْمُهُ هُمَام، تَمَرَّسَ عَلَى الْعَمَلِ فِي الْجَمْعِيَاتِ الثَّقَافِيَّةِ وَالرِّيَاضِيَّة، فَصَارَتْ لَهُ خِبْرَةٌ وَاسِعَةٌ بِالْعَمَلِ الْجَمَاعِي. وَكَانَ هَمَّامٌ غَيُورًا عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّة، مُسْتَشْعِرًا لِدَوْرِ الْجَمَاعَةِ فِي تَحْقِيقِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْأَفْرَاد، فَاتَّصَلَ بِسُكَّانِ حَيِّ الْأَغْرَاس، وَاقْتَرَحَ عَلَيْهِمْ تَأْسِيسَ جَمْعِيَّةٍ لِلْحَيّ، تَرْعَى مَصَالِحَه وَتَقُومُ بِوَاجِبَاتِه، وَمِنْ بَيْنِهَا إِنْشَاءُ حَدِيقَةٍ وَتَشْجِيرُ الْأَرْصِفَة.

تَأَسَّسَتْ جَمْعِيَّةُ الْحَيّ، وَتَشَكَّلَ مَكْتَبُهَا الْمُسَيِّر، وَحَصَلَتْ عَلَى وَضْعِهَا الْقَانُونِي، فَأَصْبَحَتْ تُسَمَّى:

جَمْعِيَّةَ حَيِّ الأَغْرَاس

كَانَ سُكَّانُ حَيِّ الْأَغْرَاسِ قَدِ اقْتَرَحُوا عَلَى هَمَّامٍ أَنْ يَكُونَ رَئِيسًا لَهَا، لِأَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْفِكْرَة.

أَخَذَ هَمَّامٌ بِفِكْرِهِ الْيَقِظِ يُخَطِّطُ لِمَا عَلَى جَمْعِيَّةِ حَيِّ الْأَغْرَاسِ أَنْ تَفْعَلَه، وَوَضَعَ عَيْنَهُ عَلَى مِسَاحَةٍ فَارِغَةٍ بِالْحَيّ، هِيَ فِي الْأَصْلِ مَا خُطِّطَ لَهَا فِي تَصْمِيمِ الْبَلَدِيَّة لِتَكُونَ حَدِيقَة، وَلَكِنَّهَا بِفِعْلِ الْإِهْمَالِ تَحَوَّلَتْ إِلَى مَزْبَلَة.

اِسْتَعَار هَمَّامٌ مِنْ أَحَدِ الْبَنَّائِينَ مَعَاوِلَ وَمَكَاشِطَ وَعَرَبَتَيْن، وَفِي أَحَدِ أَيَّامِ العُطْلَةِ الدِّرَاسِيَّة، جَنَّدَ تَلاَمِيذَهُ لِلتَّطَوُّعِ فِي إِفْرَاغِ تِلْكَ الْمِسَاحَةِ الْأَرْضِيَّةِ مِنَ الْأَتْرِبَةِ وَالْأَزْبَال، فَشَمَّرُوا عَنْ سَوَاعِدِهِمْ وَسَوَّوْا الْأَرْضَ وَكَشَطُوهَا، وَأَخَذُوا النِّفَايَاتِ بِوَاسِطَةِ الْعَرَبَتَيْنِ إِلَى مَكَانٍ بَعِيد.

تَعَرَّفَ هَمَّامٌ عَلَى أَحَدِ سَاكِنَةِ الْحَيّ، وَهُوَ صَاحِبُ مَشْتَلٍ يَسْتَنْبِتُ فِيهِ الْأَشْجَارَ والنَّبَاتَاتِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْحَدَائِق، فَطَلَبَ مِنْهُ التَّبَرُّعَ بِأَتْرِبَةٍ مِنْ أَجْلِ كِسَاءِ تُرْبَةِ الْأَرْض، وبِأَشْجَارٍ تُزْرَعُ فِيهَا، فَكََانَ مِنْ كَرَمِ ذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ وَافَقَ فِي الْحَال. وَطَلَبَ هَمَّامٌ مِنْ أَحَدِ سَاكِنَةِ الْحَيّ، وَهُوَ صَاحِبُ شَاحِنَة، أَن يَتَبَرَّعَ بِالنَّقْلِ.

جَاءَتْ الشَّاحِنَةُ مُحَمَّلَةً بِالْأَتْرِبَة فَأَفْرَغَتْ حَمُولَتَهَا فِي الْأَرْض، وَفِي يَومٍ مِنْ أَيَّامِ الْعُطْلَةِ الدِّرَاسِيَّةِ جَنَّدَ هَمَّامٌ تَلاَمِيذَ الْمَدْرَسَةِ لِتَسْوِيَّةِ تِلْكَ الْأَتْرِبَة. وَمَا جاءَ يَوُمُ عُطْلَةٍ أُخْرَى حَتَّى وَصَلَتِ الْأَشْجَارُ مِنَ الْمَشْتَل، فَشَمَّرَ هَمَّامٌ عَنْ سَاعِدَيْه، كَمَا شَمَّرَ التَّلاَمِيذُ عَن سَواَعِدِهِمُ الْفَتِيَّة، وقَامُوا بِحَفْرِ الْحُفَرِ فِي أَمَاكِنَ مَعْلُومَة، وَتَمَّ زَرْعُ الْأَشْجَارِ وَسَقْيُهًَا. كَانَتْ أَشْجَارَ نَارَنْجٍ تَوَقَّعَ الْجَمِيعُ أَنْ تُضَوِّعَ رَائِحَتُهَا الزَّكِيَّةُ فِي مَوْعِدِ إِزْهَارِهَا.

ظَلَّ عَقْلُ هَمَّامٍ الْمُدَبِّرُ يَشْتَغِلُ وَيَجْتَهِدُ لِلْوُصُولِ إِلَى وَضْعٍ أَفْضَلَ لِلْحَدِيقَة، وَسَرْعَانَ مَا اتَّصَلَ بِنَجَّارٍ مِنْ سَاكِنَةِ حَيِّ الْأَغْرَاسِ فَطَلَبَ مِنْهُ التَّبَرُّعَ بِصُنْعِ كَرَاسٍ لِلْحَدِيقَة، يَجْلِسُ عَلَيْهَا الْمُسِنُّونَ وَالْعَجَزَة. وَقَصَدَ هَمَّامٌ حَدَّادًا مِنْ سَاكِنَةِ الْحَيِّ فَطَلَبَ مِنْهُ التَّبَرُّعَ بِصُنْعِ أَرَاجِيحَ يَتَسَلَّى بِهَا الْأَطْفَال، وَمَا أَتَى الْنَّجَّارُ بِالْكَرَاسِي وَالْحَدَّادُ بِالْأَرَاجِيحِ وَتَمَّ تَثْبِيتُهَا فِي أَمَاكِنِهَا حَتَّى اشْتَرَى هَمَّامٌ صِبَاغَةً مُتَعَدِّدَةَ الْأَلْوَان، مِنْهَا الْأَحْمَرُ وَالْأَزْرَقُ وَالْأَبْيَضُ وَالْأَصْفَر، وَقَامَ هُوَ وَتَلاَمِيذُهُ بِصِبَاغَتِهَا بِتِلْكَ الْأَلْوَان، مِمَّا أَضْفَى عَلَى الْحَدِيقَة رَوْنَقًا وَجَمَالاً.

وَكَانَ مِنْ بَيْنِ سَاكِنَةِ حَيِّ الْأَغْرَاسِ فَنَّانٌ نَحَّاتٌ رَأَى الْحَدِيقَةَ فَنَصَبَ في وَسَطِهَا نَصْبًا يَرْمُزُ إلى الحَقِّ والخَيْرِ والجَمَال.

مَرَّ صَاحِبُ الْمَشْتَلِ بِالْحَدِيقَة، فَرَأَى أَرْضَهَا عَارِيَّة، وَسَرْعَانَ مَا اتَّصَلَ بِهَمَّامٍ وَأَرْسَلَ الْعَدِيدَ مِِنَ الْأَغْرَاس، مِنْ وُرُودٍ وَزُهُورٍ وَرَيَاحِين، فَقَامَ هَمَّامٌ وَتَلاَمِيذُهُ بِزَرْعِهَا وَسَقْيِهَا. وَاسْتَمَرُّوا فِي سَقْيِهَا وَرِعَايَتِهَا.

بَدَتِ الْحَدِيقَةُ عَلَى أَحْسَنِ حَال، يَقْصِدُهَا الْأَطْفَالُ وَالْمُسِنُّون، وَأَرِيجُ أَزْهَارِهَا وَوُرُودِهَا يُضَوِّعُ الْمَكَان.

مَا اكْتَمَلَتِ الْحَدِيقَةُ حَتَّى أَخَذَ هَمَّامٌ يَلْتَقِي فِيهَا بِأَطْفَالِ الْحَيِّ كُلَّ صَبَاحٍ لِيَوْمِ الْأَحَد، لِيُنْشِدُوا الْأَنَاشِيد، ولِيَقْرَأُوا الْقِصَص، مُسْتَمْتِعِينَ بِرُفْقَةِ هَمَّام، وَبِطِيبِ هَوَاءِ الْحَدِيقَةِ وَظِلاَلِ أَشْجَارِهَا.

خَطَّطَ هَمَّامٌ لِتَشْجِيرِ أَرْصِفَةِ الْحَيّ، فَقَامَ هُوَ وَتَلاَمِيذُهُ بِحَفْرِ الْحُفَر، لِتَكُونَ بَيْنَهَا مَسَافَةٌ مَعْلُومَة، وَطَلَبَ مِنَ السُّكَّانِ أَنْ يَزْرَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى رَصِيفِ بَيْتِهِ أَشْجَارَ النَّارَنْج، الَّتِي تُزْهِرُ فِي مَوَاعِيدِ الْإِزْهَارِ لِيُضَوِّعَ أَرِيجُهَا الحَيَّ بِأَكْمَلِه، وَكَذَلِكَ كَان، ثُمَّ َدَعَا سُكَّانَ الحَيِّ إِلَى تَرْبِيَّةِ الأَغْرَاسِ وَالاِعْتِنَاءِ بِهَا، وعَرْضِهَا عَلَى الأَرْصِفَةِ وَشُرُفَاتِ الْمَنَازِل، فَتَنَافَسَ سُكَّانُ الحَيِّ في تَبْيِيضِ وَاجِهَاتِ مَنَازِلِهِم، وَعَرْضِ أَجْمَلِ وَأَبْهَى النَّبَاتَاتِ وَالزُّهُورِ وَالرَّيَاحِينِ على قَارِعَاتِ الطَّرِيق، وَعَلَى الشُّرُفَات.

لَمْ يَضِقْ هُمَامٌ ذَرْعًا بِمَا يَفْعَل، فَحَرِصَ عَلَى مَزِيدٍ مِنَ التََّعَاوُنٍ مَعَ سُكَّانِ الحَيّ، وَكَانَ كُلَّمَا الْتَقَى بِهِمْ يٌهَنِّئُونَهُ عَلَى مَا فَعَل، فَكَانَ يَرُدُّ التَّهْنِئَةَ لِلْجَمِيع.

فَكَّرَ هَمَّامٌ وَوَجَدَ أَنَّ مُهِمَّةَ جَمْعِيَّةِ حَيِّ الْأَغْرَاسِ لَمْ تَنْتَه، فَعَقَدَ جَمْعًا لِأَعْضَاءِ مَكْتَبِهَا الْمُسَيِّر، وَسَطَّرَ مَعَهُمْ بَرْنَامَجَ عَمَلٍ يَسْعَى إِلَى إِنْجَازِ الْعَدِيدِ مِنَ الْمَشَارِيع، مِنْهَا دَارٌ للثَّقَافَة، وَمَلْعَبٌ لِكُرَةِ الْقَدَم.

مَعَ جِدِّ هَمَّامٍ وَاجْتِهَادِه، وَثِقَةِ سُكَّانِ حَيِّ الْأَغْرَاسِ بِهِ وَمُسَانَدَتِهِمْ لَه، وَاتِّصَالِهِ بِالْمَسْئولِين، بَلَغَ الْمَطْلُوب، وَتَحَقَّقَتِ الْغَايَات.

أَصْبَحَ الْحَيُّ في رُقِيٍّ ونَمَاء، لَهُ حََدِيقَةٌ يَتَنَزَّهُ فِيهَا الأَطْفَال، ومَلْعَبٌ لِكُرَةِ القَدَم، وَدَارٌ للثَّقَافَة، وَكَانَ ذَلِكَ بِفَضْلِ الْمُبَادَرَاتِ الْحَسَنَة.

 


 

محمد عز الدين التازي