شجرة التوت

شجرة التوت

رسم: سحر عبدالله

جلس راعي الغنم إلى جذع شجرة التوت، وكلبه أمامه، باسط ذراعيه بالوصيد، ينتظر أي إشارة من صاحبه لإرجاع أي غنم قاصية إلى القطيع. كان الراعي مطمئنا لغنمه بحراسة هذا الكلب، فأرخى جسمه وبدأ يتنصت على الطيور وهي تسر بما شاهدته من عوالم إلى شجرة التوت، تقفز من فنن إلى آخر، تشقشق وتغرد. وتساءل الراعي: «لماذا تختار الطيور شجرة التوت هاته، تأوي إليها وتبني فيها أعشاشها وتستأمنها على فراخها لتطير خماصا وتعود بطانا؟ ودائما على الأغصان تتغازل وتتزاوج، وتباركها الشجرة بالرقص والتصفيق؟».

أخذت الراعي سِنَةٌ من النوم، قطعتها هزة خفيفة، جعلته ينظر يمينا ويسارا شبه مذعور، ليعود إلى شروده وغفوته، لكنه أحس بهزة ثانية، فانتفض ونهض واقفا لاستجلاء الأمر.. احتار ولم يفهم، فعاد إلى جلسته، وما كاد يجلس حتى غاص في نوم عميق من شدة التعب، متوسدا ذراعه اليمنى.

سمع الراعي صوتا خافتا أفزعه، فهم بالهرب لكنه سقط على وجهه، لم يتمكن من زحزحة رجليه، نظر إليهما مفزوعا، كانتا مكبلتين بعروق شجرة التوت، أراد أن يصرخ، أن يطلب النجدة، لم يستطع.. فأحس بالنهاية المرعبة مع قعقعة الأغصان الغاضبة وفحيح العروق المجنونة، كيف تجعله يغوص في الأرض شيئا فشيئا، والكلب ينظر إليه مرة وإلى الغنم أخرى ببرود شديد. كان ينتظر منه أن يتحرك، أن ينبح، أن يفعل أي شيء لنجدته، لكن الكلب ربض في مكانه ووضع رأسه على قائمتيه الأماميتين الممدودتين، ونام نصف نومة.

انتفض جذع الشجرة بقوة هذه المرة، حتى أحس الراعي أن الشجرة همت بسحقه، صرخ صرخة ميتة لم تتعد حلقه، وأغمض عينيه، وشبك ذراعيه مخفيا رأسه بينهما لاتقاء أي ضربة محتملة.

مرت هنيهة، فتح الراعي عينيه ببطء، رأى لحاء شجرة التوت ينفرج عن عينين كبيرتين وأنف معقوف وشفتين غليظتين. تحركت الشفتان عن صوت كالرعد وصفير حاد، استنفر أشجارا متباعدة، زحفت تثير الغبار ، وزادت من رعب الراعي وتيقن من الهلاك الوشيك.

انتفضت شجرة التوت فسقطت أوراقها وطارت العصافير مرعوبة، وقبضت على الراعي بغصنين قويين، وهزته هزا شديدا حتى سقطت قبعته أرضا، وتكلمت بكلام يشبه كلام القضاة في المحاكم: «تهمتك أيها الراعي، أنك بترت كل أغصان الأشجار الحاضرة هنا واجتثثت البعض وأحرقت البعض، وتلذذت بالنار تلتهم الأخضر واليابس.. هل تعترف بالمنسوب إليك؟ ». هز الراعي رأسه معترفا بعينين دامعتين ذليلتين طالبا تخفيف الحكم.

تقاربت الأشجار أكثر وتشابك ما بقي من أغصانها للتداول وإصدار الحكم.

أوكلت شجرة التوت لشجيرة صغيرة مهمة النطق بالحكم. توسطت هذه الشجيرة الجميلة المكان وانبجست شفتاها عن كلام رقيق مسموع: «أيها الراعي، بعد أن اعترفت بالمنسوب إليك، ستبقى مكبل الرجلين حتى هذا المساء، وفي الغد ستبدأ عملية غرس عشرين شجرة». هز الراعي رأسه بالموافقة وراقب الأشجار تتحرك مبتعدة. أحس بيد تهزه، ففتح عينيه ليجد نفسه قد استيقظ من حلم مزعج.

نظر إلى شجرة التوت في كبريائها الطبيعي المشحون بالصمود والتحدي، وقال لها: «صدقت، والله، يا شجرة التوت، وسأبدأ تنفيذ الحكم الآن.. الآن». وبدأ الراعي في عملية غرس الأشجار بحماس كبير والندامة تعصر قلبه على ما فعل.

 

 


 

محمد مباركي