أيوب

أيوب

رسوم: بلال بصل
تلوين: رشا ربيع أحمد

ذات غروب يوم يسبق أيام عطلتي الصيفية، طرق العم أيوب باب منزلنا، وطلب من أبي وأمي السماح لي بمساعدته في فرز وتوزيع البريد، فكان له ما طلب. فهو يعلم مقدار محبة واحترام أهلي له. كانت الفرحة تغمرني، والحماس يشدني إلى صباح اليوم التالي لملاقاة العم أيوب والذهاب سوياً إلى العمل.

عند الساعة السابعة إلا ربعا حضر العم أيوب واصطحبني معه إلى مركز البريد، دخلنا إلى قسم فرز البريد حيث رأيت صناديق بلاستيكية ممتلئة بالرسائل ومكتوب عليها أسماء المناطق التي تعود لها. استلم العم أيوب الصندوق الخاص بالمنطقة التي يتولى توزيع رسائلها، ووضعه على إحدى الطاولات المخصصة لفرز الرسائل. جلسنا سوياً وبدأ يعلمني كيفية الفرز باختيار الرسائل حسب أسماء الشوارع، وترتيبها ضمن مجموعات مجاورة لبعضها كما تتجاور الشوارع. انتهينا من الفرز خلال أربعين دقيقة، أحسست خلالها بأني قمت برحلة حول العالم. رحت أنظر إلى الطوابع الملصقة عليها والتي تحمل صور رؤساء وملوك وبطولات رياضية، وأخرى تحمل صور حيوانات ومراكب بحرية، وأحياناً صوراً رمزية ورسوماً.

حملنا مجموعات الرسائل وقد لفت كل مجموعة بشريط مطاطي حولها، ووضع العم أيوب نصفها في حقيبته الجلدية، والنصف الآخر في خزانته المخصصة له في مركز البريد، وقبل أن يقفل الخزانة نظر إليّ مبتسماً، ثم أخرج منها حقيبة جلدية جديدة بنصف حجم حقيبته، فاجأني بها وأدخل السرور إلى قلبي، وما زادني سروراً أنه كتب عليها اسمي. بعدها نظر إلي مبتسماً وقال لي «هيا بنا نملؤها سوياً»، ذهبنا إلى المسئول عن تسليم البريد المضمون الأستاذ سراج، ألقينا عليه التحية فرد بأحسن منها وصافحني قائلاً: «العم أيوب مشهور بمهارته في عمله وأخلاقه الطيبة في معاملته مع الناس، تعلم منه قدر ما تستطيع... ولا تنسَ أن تذّكره بأن يسقيك كوباً من عصير البرتقال، إنه سر نشاطه». ضحك العم أيوب قائلاً: «أعدك أن أسقيه عند الظهيرة كوباً من عصير البرتقال البارد».

انطلق العم أيوب بدراجته الهوائية وأنا خلفه ممسكاً بالكرسي وكل منا يحمل حقيبته على كتفه، وما أن قطعنا مسافة قصيرة حتى وصلنا إلى أول شارع، أوقف الدراجة جانباً وقال لي: «اقرع باب السيدة نبيلة واعطها هذه الرسالة، وقل لها إنها من ابنها الذي يدرس الطب في لندن، بينما أقوم أنا بتسليم بعض الرسائل في المبنى المقابل». طرقت بابها قائلاً: «سيدة نبيلة، لديك رسالة من ابنك في لندن»، فتحت الباب وعلامة التعجب على وجهها!! ابتسمت لي قائلةً: «أأنت مساعد العم أيوب؟؟« أجبتها: «نعم سيدتي، أنا غسان أساعد العم أيوب عندما لا يكون لدي مدرسة»، ابتسمت من جديد وقالت لي: «انتظر قليلاً يا غسان»، عادت وأعطتني درهماً وقالت لي: «هذا لك لأنك مجتهد وتساعد العم أيوب في عمله، وفي المرة القادمة عندما تأتيني برسالة من ابني لك عندي هدية صغيرة».

انتظرت نزول العم أيوب من المبنى وأنا فرح بإنجازي الأول، وما أن أطل حتى أخبرته بما جرى. تبسّم العم أيوب كعادته وقال لي: «الدرهم إكرامية لك، وهذا دليل على نجاحك في إيصال رسالتك الأولى، اعتبره الدرهم الأول من ثمن دراجتك الجديدة»، قلت له: «ولماذا الناس تعطينا الإكرامية؟» أجابني: «لأننا نحمل إليهم الأخبار الطيبة المخبأة داخل الرسائل».

تابعنا عملنا وكنا كلما وصلنا إلى أول شارع، يأخذ من حقيبتي الصغيرة الرسائل المضمونة ويصعد إلى أصحابها ومعه دفتر الاستلام، حيث يقوم كل صاحب رسالة مضمونة بالتوقيع على استلامها. فيما يعطيني مجموعة من الرسائل العادية لأقوم بتوزيعها على عناوينها، وأنا أفاجئه بسرعة التنفيذ.

عند الظهيرة كنا قد انتهينا من توزيع جميع الرسائل وكان العم أيوب مرتاحاً جداً لسير العمل، حتى أنه قال لي: «أحسنت يا غسان، لم أكن أعلم أنك على هذا القدر من المهارة». ذهبنا إلى محل بيع العصائر، استقبلنا صاحب المحل بعبارة «أهلاً بالعم أيوب وبمساعده الجديد إن لم أكن مخطئاً»، أجابه: «لست مخطئاً، إنه مساعدي غسان وأهله الطيبون جيراني، ومن الآن وصاعداً اعمل حسابك أن تحضر لنا بدل كوب عصير البرتقال كوبين». أحضر لنا بائع العصائر الكوبين قائلاً: «تفضلا، بالهناء والصحة، هذان الكوبان لن تدفع ثمنهما اليوم يا عم أيوب لأنهما تقدمة من المحل ترحيباً بضيفنا غسان».

عدنا بعد هذه الاستراحة بنشاط وحيوية إلى مركز البريد وجلبنا باقي الرسائل من خزانة العم أيوب، وقبل انتهاء دوام عمل سعاة البريد كنا قد انهينا عملنا بالكامل.

ما أن طرق العم أيوب باب منزلنا حتى فتحت لنا أمي وبجانبها أبي وكأنهما كانا بانتظارنا، قالا للعم أيوب: «أهلاً أهلاً بالجار الطيب، تفضل بالدخول».

أجابهما العم أيوب: «شكراً لكما، في وقت آخر إن شاء الله». سأله أبي: «هل وجدت غسان عند حسن ظنك؟».

الإجابة أتت سريعة من العم أيوب لترسم الدهشة على وجه أبي وأمي: «طبعاً لا...لم يكن كما ظننت»، ووضع يده على كتفي بعد أن رسم ابتسامته المعهودة على وجهه قائلاً: «بل كان أفضل بكثير مما كنت أظن، إن صدقت توقعاتي غسان سيصبح من الأشخاص البارزين في عالم البريد».

سبعة أشهر كانت تفصلني عن التخرج من الجامعة لأحمل شهادة في إدارة الأعمال، الجميل في الأمر أنها كانت نفس المدة التي تفصل العم أيوب عن تقاعده من العمل في مركز البريد.

ذهبت بصحبة أبي وأمي لزيارة العم أيوب في منزله حاملاً ملفاً بداخله مجموعة من الأوراق، شربنا الشاي سوياً وجو المرح هو الطاغي على الجلسة رغم أن العم أيوب تعتصره الغصة عندما يتحدث عن تقاعده بعد سبعة أشهر، لكن ما لا يعلمه ما هو داخل الملف!!

رفعت الملف عن الطاولة وقدمته للعم أيوب قائلاً: «تفضل يا عم أيوب، هذا الملف لا ينقصه سوى الاسم الذي ستختاره». أدرك العم أيوب أن ما يخبئه هذا الملف شيء مفرح، نظر إلى أبي وأمي ثم نظر إليّ، ورغم مهارته لم يستطع معرفة الفرحة التي على وجوهنا علام تدل، فتح الملف ليجد ورقة الغلاف مكتوبا عليها وبالخط العريض «شركة.. للبريد السريع»!! استغرب العم أيوب بفرح وسرور ما يقرأه، وقبل أن يرفع نظره قلت له: «عم أيوب، بفضلك أحببت مهنة البريد، لقد تعلمت منك وخلال عملي معك ما يكفيني. وعند دخولي الجامعة كتبت نظاماً جديداً ومتطوراً للبريد السريع في بلدنا، وخططت لإنشاء شركة للبريد السريع نتولى إدارتها سوياً. منذ أشهر راسلت شركة عالمية للبريد السريع وأرسلت لها نسخة عن النظام الجديد للبريد السريع الذي وضعته، وعن فكرتي لافتتاحنا شركة بالتعاون معهم. اليوم وصلني جوابهم الذي يقول: «جانب السيد غسان، بعد الدراسة نعلمكم أن شركتنا قد وافقت على العمل معك ومع السيد أيوب على افتتاح شركة للبريد السريع في بلدكم، تكون فرعاً لنا، على أن يصل خلال أيام مسئول من قبلنا للقائك والسيد أيوب والاتفاق معكما. آملين التعاون الطويل معكما وتفضلوا بقبول التحية والاحترام». ما هو الاسم الذي تراه مناسباً للشركة؟ فكر العم أيوب قليلاً ثم قال: «لطالما أحببت أن أحمل البشرى لأصحاب الرسائل، فليكن الاسم (شركة بشرى للبريد السريع)»

 


 

جلال بصل