سلاماً.. بيت جدي

سلاماً.. بيت جدي
        

رسم: عفراء اليوسف

          تمر ذكريات الطفولة في خاطري كحلم وردي.. كغيمة عطر ساحرة تترك عبقها في الذاكرة وتمضي.. هكذا حين نكبر.. تصبح أيام الطفولة كحبات سكر تغمر حياتنا بحلاوتها.

          بيت جدي.. إحدى هذه الغيمات الجميلة التي تزورني دائماً.

          كانت أحلى لحظات حياتي في طفولتي أن أزور بيت جدي أنا وإخوتي وهناك نلتقي مع أولاد عمومتي وأخوالي حيث يلتم شملنا في جوقة تشبه جوقة العصافير المشاغبة.

          بيت جدي يشبه جنة صغيرة، باحة الدار واسعة تلتف حولها أحواض زرع ملأى بالورد الجوري الأحمر والفل الأبيض والزنبق البلدي وفي زوايا البيت الأربعة تقوم أربع شجرات مثمرات.

          شجرة الليمون وشجرة الكباد* وشجرة المشمش وشجرة اللوز، أما عرائش الياسمين فكانت تتسلق نوافذ البيت كأنها أنجم بيضاء، وكلما هبت نسمة عليلة تساقطت ياسمينات على بركة تتوسط الدار لتسبح على سطح الماء وتفوح في أجواء البيت رائحة زكية .. مزيج من زهر الليمون والياسمين والريحان.

          كان جدي يفرح بنا كثيراً يضمنا إلى صدره ونجلس معاً حول البحرة، وإذ تبدأ نافورة الماء تتدفق يبدأ جدي بحكاياته الجميلة التي تدهشنا وتنقلنا إلى عوالم الأساطير والغرابة وكلنا نصغي اليه كأن على رءوسنا الطير.

          وحين تحضر جدتي الطعام وصينية الفتة اللذيذة نركض إليها متسابقين مَن سيفوز باللقمة الأولى.

          وبعد الطعام يأتي دور اللعب على الدرج الطويل حيث نمد بساطاً من أول الدرج إلى آخره ثم نجلس وراء بعضنا البعض على البساط ليأتي أحدهم ويشدنا إلى أسفل الدرج ونتدحرج جميعاً فوق بعضنا وأصوات ضحكاتنا تملأ الدار، بينما جدتي تنادي انتبهوا يا أطفال.

          وعندما يتناهى إلى مسامعنا صوت بائع الحلوى نركض إلى باب الدار ونتحلق حوله لنشتري أطيب حلوى في العالم إنها «مصاصة التفاح السكري» وهي عبارة عن عود صغير مغروس بتفاحة مغمسة بطبقة من السكر الوردي.

          وتنادينا جدتي كي نساعدها في قطف ثمار الكباد وما أحلاها من مهمة نتسلق الشجرة كالقطط المشاغبة ونقطف الثمرة اللذيذة ونرميها لجدتي كي تصنع منها مربى الكباد الرائع.

          ثم ترسلنا إلى مهمة ثانية نحبها حيث نصعد إلى شرفة الدار نحمل صحناً مليئاً بفتات الخبز وننثره على الأرض لتهمي إليه من كل الجهات حمامات بيضاء ورمادية تملأ الشرفة بهديلها العذب وهي تلتقط الخبز وتسبّح الخالق.

          أما مهمتانا الثالثة والرائعة فهي أن نلم لجدتي كل الياسمين الذي رماه الهواء إلى أرض الدار لتضمه لنا في عقد ساحر تضعه على أعناقنا، وكأنها تهدينا أجمل هدية في الكون.

          وعند المساء نودع جدي وجدتي بقبلاتنا ودموعنا وقلوبنا تقول لهما: سلاماً.. بيت جدي.
-----------------------------
* الكباد ثمرة من الحمضيات أكبر من البرتقال لها طعم زكي.

 


 

لينا دسوقي