آسف.. بعتها قبل إتمامها!

آسف.. بعتها قبل إتمامها!
        

          جلس «كلود موني» (Claude Monet) بجسده البدين على أحد الكراسي تحت مظلة واسعة بيضاء بحديقة منزله الريفي، بمنطقة «جفرني» (Giverney) (قرية صغيرة بشمال فرنسا)، كان متعباً بعد أن قضى نصف هذا اليوم الحار في استكمال رسم لوحة كبيرة ضمن سلسلة «أزهار البشنين» (Numphaea) التي طلب صديقه الوزير الأول الفرنسي «جورج كلمونصو» إنجازها للحكومة الفرنسية.. نزع عنه قبعته، وجفف جبهته التي نضحت منها بعض قطرات العرق بمنديل، ليمسح بعد ذلك لحيته البيضاء الكثة، ثم أزال نظارته الطبية ووضعها على الطاولة.. طلب من «بلانش» (Blanche) أرملة ابنه «جون» (Jean) كوب ماء.. فمنذ وفاة والدتها أصبحت «بلانش» المشرفة على تدبير شئون بيت الفنان «موني».. لبت «بلانش» طلبه بخفة، وجلست إلى جواره للتحدث إليه في انتظار موعد الغداء:

          - كيف قضيت صبيحة هذا اليوم يا عمي «كلود»؟

          - بخير عموما يا بنيتي، إن ضعف بصري يضايقني هذه الأيام، فقد أكد لي الطبيب أنني مصاب بعتمة العدسة، وقد يتطلب الأمر إجراء عملية جراحية، وهو ما لا أقوى عليه حاليا لاسيما أنني ملتزم مع صديقي «كلمونصو» بإنجاز طلبياته.

          - لقد أعجب الزوار الأمريكيون الذين قدموا عندنا أمس بهذه الروضة الغناء البهيجة التي عملت يا عمي على تهيئتها، وأسبغت عليها ذوقك الفني والجمالي لتصبح كما هي معلمة في البستـنة.

          مونيه: يسعدني كثيرا ذلك، إن لهذا المنزل وحديقته قصة أتمنى أن أرويها في مذكراتي ولأحفادي.. فمنذ أن استأجرتها وأنا أحن إلى امتلاكها، لقد أسرت خاطري جمالية الطبيعة بهذه المنطقة التي تتكئ على أحد روافد نهر السين. حين زرتها لأول مرة وجدتها بستانا من التفاح وبعض الخضراوات يتوسطه هذا المنزل، مبسوطة وسط هذه الروابي، وجدتها أفضل مكان يمكن أن أقضي به بقية عمري في معانقة الطبيعة للتفرغ للرسم والإبداع.

          وكلما حالفني الحظ في بيع لوحة احتفظت بمبلغ من أجل هذا الحلم الذي تحقق سنة 1890، إذ استقدمت مجموعة من النباتات العجيبة والغريبة التي أدخلت من آسيا وأمريكا اللاتينية: الخيزران - السلبوت - الدهلية - الوستارية - المسك الرومي - الزنابق المائية - النرجس.. بنيت ذلك «الجسر الصغير الياباني» .. على البركة المائية التي ضممتها إلى الضيعة، وربطت هذه البركة بجزيرة «القراص» (L-île aux orties) عبر قناة، التي ضممتها هي الأخرى إلى الضيعة.. دعيني من كل ذلك الآن، هل هيأت ورقة سيرة حياتي التي سنرفقها بلوحات «البشنين» لـ «كلمونصو» وفق الملاحظات التي وجهت لك سابقا؟

          - نعم بكل تأكيد.

          -  إقرئيها لأسمع.

          - «كلود أوسكار موني» (Claude Oscar Monet)، رسام فرنسي، من مواليد 14 نوفمبر 1840، بدأ مسيرته الفنية برسوم كاريكاتورية، تعرف على رسام المناظر الطبيعية «أوجين بودان» (Eugène Boudin) واشتغل إلى جانبه، بدأ دراسة الرسم بباريس سنة 1859، وبعد توقف لمدة سنتين في التجنيد الإجباري بالجزائر، عاد إلى مرسم «شارل كلير» (Charles Gleyre) لإتقان مبادئ الرسم، بدأ عرض إنتاجاته ابتداء من سنة 1865، ومن بين اللوحات المتميزة التي رسمها: «غذاء على العشب» - «المرأة ذات الفستان الأخضر» - «نساء في البستان»، انتقل إلى لندن وبها تعرف على تاجر التحف الفنية واللوحات «ديران ريال» (Durand- Ruel) أسس  «الجمعية المجهولة الاسم للفنانين والرسامين والنحاتين والنقاشين» التي انبثق منها ما يعرف بـ «الفن التأثيري».

          - أحسنت يا بنيتي.

          - حتى لا أنسى يا عمي «كلود» طلبت مني أن أذكرك بموعدك مع «دوق ترفيس» (Le duc de Trévise).

          - أي نعم، كدت أن أنسى هذا الموعد، إنه يريد اقتناء لوحة «غذاء على العشب»، وهي لوحة عزيزة على نفسي، تذكرني ببدايتي في درب الرسم، وكان طموحي أن أرسمها ضخمة كبيرة بمقاس (4ر20 متر - 6ر50 متر ) متضمنة لشخصيات بقاماتها الحقيقية، وهي مستوحاة ومنقولة عن لوحة «إدوار مانيه» (1863) التي تحمل نفس الاسم والتي أعتبرها شخصيا ثورة في عالم الفن التشكيلي، والتي رفضها معرض باريس الدولي للفن آنذاك بحجة خروجها عن الطابع المألوف، عالجت من خلالها المناظر التي صدمت المجتمع آنذاك واحتفظت فيها بنفس الإطار الطبيعي الوارد في لوحة «مانيه»، نزهة في الغابة وغذاء على عشبها، بجعل الضوء يتدفق على السجادة مخترقا الأشجار وكأنه منديل أبيض مبسوط تحت الأطعمة الموضوعة عليه، ألبست الشخصيات ملابس عصرية وفق آخر موضة باريسية.. وكنت أقضي أوقاتا طويلة بغابة «فونتن بلو» (Fontainebleau) في رسمها بنشاط وحماس، لكنني مع كامل الأسف لم أكملها، ولم أنجر فيها إلا القسم الأول (248 سنتيمتراً × 217  سنتيمتراً) بزيت على قماش وقد عشت آنذاك خصاصا ماليا مهولا، فلولا مساعدة صديقي «فريدريك بازيل» (Frédéric Bazille) لالتهمني الفقر، وكنت أريد عرضها في معرض باريس لسنة 1867، فحاصرني رب المنزل الذي كنت أكتريه إذ كنت مدينا له بمبلغ من المال لم أكن أتوفر عليه، وتركتها لديه رهينة إلى حين الوفاء بما في ذمتي من مال، رجعت عنده بعد سنوات، وجدتها في حالة يرثى لها وقد التهمها العفن وكادت تمسح معالمها، فبذلت مجهودا لتجديدها، واسترجعتها منه، واحتفظت بها إلى الآن.

          آسف إن بعتها قبل إتمامها، وأغبط نفسي على استرجاعها ولا أريد التفريط فيها مجدداً.

 


 

أحمد واحمان