وَطَنٌ آخَرْ: قصة: أُمَيمَة عِزّالدين

وَطَنٌ آخَرْ: قصة: أُمَيمَة عِزّالدين

رسوم: هيام صفوت

لَمْ أَشْعُرْ ذَاتَ يَوْمٍ بِالْغُرْبَةِ وَأَنَا بِالكويت، مُنْذُ أَنْ جَاءَ أَبِي لِلْعَمَل فِيْهَا مُدَرِّسَاً لِلُّغَةِ العَرَبِيَّةِ بِإحْدَى مَدَارِسِهَا، وَتَرْبُطنَا عَلاَقَاتِ صَدَاقَةٍ وَمَحَبَّةٍ وَمَوَدَّةٍ بِالْكَثِيْرِ مِنْ جِيرَانِنَا. جَمَعَتْنَا اللغةُ العَربيّةُ وَتَقَارُبُ العَادَاتِ وَالتَقَالِيدِ الأَصِيْلَة، نَتَزَاوَرُ وَنَتَبَادَلُ هَدَايَا الجِيْرَةِ مِثْلَ وُرود زَاهِيَة بِصَحرَاءٍ قَاحِلَةٍ، الاِبْتِسَامَةُ لاَ تَغِيْبُ عَنْ وُجُوهِ جِيْرَانِي عِنْدَمَا يُصَادِفُونَنِي وَتَحِيَّاتٍ وَسَلاَمَاتٍ.

لِذَلِك لَمْ أُعَانِ أَنَّنِى بَعِيدٌ عَن وَطَنِي مِصْر كَثِيراً، فَلقَدْ عَلَّمَنِي أَبِي أنَّ الوَطَنَ يَسْكُنُ فِيْنَا أَيْنَمَا ذَهَبْنَا.

فَرِحْتُ بِدَعْوَةِ صَديقَتِي فَاطِمَة لِلاِحْتِفَالِ مَعْهَا بِالعِيْدِ الوَطَنِي لِلْكويت الذي يجيءُ فِي شَهرِ فبراير من كلِّ عَام، وَشَجَّعَنِي تَعَلّم فَن الأوريجامي (فَن طَي الورَق) عَلَى عَمَلِ كَارْتْ رَقِيقٍ وَبَسِيط، فَرِحَتْ بِهِ صَديقتي فَاطِمَة، لأنَّه يُعَبِّر تَمَامَاً عَنْ عَلَمِ الكويت، حتى أَنَّنَا قَضَيْنَا سَاعَاتٍ طَويْلَةٍ فِي صُنْعِ أَعْلامِ لِلْكويت وَأَهْدَيْنَاهَا لِبَقيَّةِ الصَدِيقَاتِ بِالمَدْرَسَةِ.

كَانَ الاحْتِفَالُ رَائِعَاً وَهو يَسْتَعْرِضُ كَيْفَ حَصَلَتِ الكويت على استِقْلالِهَا مَرَّتَيْن، مَرَّة عَن بريطَانيا في العام 1961 والمرَّة الثَانية عِندما حرَّرَهَا أبناؤها مِنْ الاحْتِلاَل العِراقى في العام 1991، لبِسَتْ الفَتيات المَلابِس الوَطَنيّة وَطَافَت أبَاريقُ القَهْوَةِ وَأَطْبَاقُ الغُريِّبَة وَالزَلابية والبقلاوة فِي حَفَاوةٍ وَسط مُشَارَكَةِ الأهَالِي وَالمُدَرِّسِيْنْ.

وفِي المَسَاءِ دَعَانَا أبِى لِلْعَشَاءِ بأَبْرَاجِ الكويت الشَّهِيرَة وَهِي أَيضاً تُحْفَة مِعْمَارِيَّة، دَائِمَاً أَقِفُ أَمَامَهَا مُندَهِشَة وَمُعْجَبَةً بِتَصَامِيمهَا الهَنْدَسِيَّة الفَاتِنَة، حتى أنَّهَا اسْتَحَقَّتْ جَائِزَة أَغا خان لِلْعِمَارَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ.

تَنَاوَلْنَا الطعَام بِالبُرْجِ الرئِيس الذي يَتَكَوَّن مِنْ كُرَةٍ عُلْيَا وَهِي الْكُرَة الكَاشِفَة وَتَدور دَورَةً كَامِلَة حَول نَفْسِهَا كُلّ نِصْف سَاعَة مُطلِعَة الزوَّار عَلَى مَنَاظِر الكويت، كَمَا يَحْتَوي البُرْج عَلَى مِصْعَدينِ سَرِيعَين لِنَقْلِ الزُّوَّارِ مِنَ «الأرض» إِلَى الكُرَةِ الكَاشِفَة عَلَى ارْتِفَاعِ 133 مِتْرَاً فِي 35 ثَانِيَة. أمَّا البُرْج الأَوْسَط فَعِبَارَة عَنْ خَزَّان لِلْمِيَاه وَيَتَّسِع لِمِلْيُون جَالُون مُكَعَّبْ. وَالبُرْج الأصْغَر: وَهُوَ البُرجْ المُخَصَّصْ لِلْتَحَكُّمِ بِكَهْرَبَاءِ مَدِيْنَةِ الكويت وضَوَاحِيْهَا.

أَوْشَكَ أَبِي أن يَنْهِي فتْرَةِ عَمَلِه بالكويت، وَعَلِمَت فاطمة وَصَدِيقَاتِي نُوف وَزَينب وَمُنى وَفَرح بالخَبَرِ .. شَعَرْتُ بالحُزْنِ يَتَسَلَّل لِقُلُوبِهِن حَتّى أن دُمُوعَهُن كَادَت تَطْفَرَ، غَير أنَّهُنَّ وَارَيْنَهَا بِاِبْتِسَامَةٍ وَدُعَاءٍ مِنَ القَلْبِ.

مَرَّتْ خَمْس سَنَوَات عَلَى وُجُودِنَا بِالكويت، تَبَادلِنَا الضَحِكَات وَالأُمْنِيَاتْ حَتَّى الأَحْزَان كُنَّا نَقْتَسِمْهَا فِى صَبْرٍ.

قَبْلَ السَفَر بِأَيَّامٍ قَلِيْلَة طَافَ أَبِي بِنَا بِشَوارعِ الكويت الفسيحة والنظيفة والرَائِعَة، أُودِّعُ صَدِيقَاتِي عَلَى وَعْدِ أَن يَزْورونَنِي قَريبَاً فِي مِصرَ .. وَوجَدتُ فَاطمة تُحضِر لَوحَةً رَائِعة رَسَمَتْهَا بِنَفْسِهَا، عِبَارَة عَن نَخْلَتَيْن بَاسِقَتَيْنِ مُتَجَاورَتَين، يتَدَلَّى منهما البَلَحُ بَازِغَاً بِقوَّة.

فَهِمْتُ مَغْزَى لَوحَتَهَا وَاحتَضَنْتهَا، لَم تَبكِ هَذه المَرَّة بَل أَخْبَرَتْنِي بأنهَا سَتَزُورنِي كُلّ صَيفٍ أثْنَاء الإِجَازَة.

بِتُّ أَنتَظِر الإجَازَة بِلَهْفَةٍ حَتَّى أُقَابِلَ فَاطمة وَلَوحَاتِهَا وَحَكَايَاهَا الدافِئَة عَنْ الوطَنِ وَالأَصْدِقَاء.

 


 

قصة: أُمَيمَة عِزّالدين