مَــلِك العرائس (هدية العدد)

مَــلِك العرائس (هدية العدد)

رسمه: ياسر جعيصة

ما أجملَ أن يكون المرء سببًا في إسعاد الصغار، ما أجملَ أن يشعر بهم، ويعبر عنهم بصدق من خلال فن راق، يستمدون منه بطريقة غير مباشرة السلوكَ الحسنَ، والصفاتِ الحميدة.

هذا ما قضيتُ فيه عمري، أعمل من أجله أكثر من خمسين عامًا، أعمل من أجل إسعاد الصغار وإمتاعهم من خلال فن تحريك العرائس الذي أحببته كثيرًا، لهذا قضيتُ سنوات عمري أعمل في هذا المجال الممتع للصغار والكبار معًا.

اسمي صلاح السقا، وُلدتُ في مارس من العام 1932م مركز أجا في محافظة الدقهلية بمصر، أحببتُ العرائس منذ الصغر، وكنتُ دائمًا وأنا صغيرـ أقوم بتجميع الدُّمَى التي أمتلكها أنا وإخوتي وأقاربي، أحركها وأجعلها تتكلم مع بعضها من خلال أصوات مختلفة أقوم بتقليدها، ورغم حبي لها فإنني لم أتخيل في يوم من الأيام أني سأعمل في هذا المجال، وبعد أن أنهيتُ دراستي الثانوية، التحقتُ بكلية الحقوق جامعة عين شمس بالقاهرة، ورغم تفوقي الدراسي وحصولي على ليسانس الحقوق فإنني لم أحتمل العمل في مجال المحاماة أكثر من عام واحد، لأنني درست شيئًا لم أحبه، ولهذا قررت أن أترك المحاماة وأبحث عن عمل أرغب فيه، كي أستطيع أن أنجح وأتميز من خلاله.

وكانت داخلي رغبةٌ قوية في أن أعمل في مجال فن العرائس، فاتخذت قرارًا أن أكون أحد فناني العرائس، ولكي أكون ناجحًا في هذا الفن كان عليّ أن أدرسه في فترة الخمسينيات، والمشكلة أنه لم يكن لهذا الفن وجود فعلي في الوطن العربي.

فقررت أن أحصل على دورة تدريبية في تعليم فن العرائس على يد الخبير سيرجي أورازوف، الأب الروحي لفناني العرائس في العالم، وخلال دراستي لعالم العرائس، اكتشفت روعة ومتعة هذا الفن، وسرعان ما تعلمته وأتقنته، مما أدهش معلمي أورازوف الذي كان يقول لي دائمًا: «أنا سعيد أن يكون أحد تلاميذي عربيًّا مصريًّا، يحب ويتقن فن العرائس إلى هذه الدرجة».

بالإضافة إلى ذلك فهو الذي شجعني على السفر إلى رومانيا لاستكمال دراستي هناك، فلم أتردد لحظة واحدة، وبالفعل سافرت إلى رومانيا، حيث كانت بداخلي رغبة قوية في معرفة كل جديد في هذا المجال الرائع.

أحلام كثيرة

سافرتُ إلى رومانيا، وانبهرتُ بجمال البلد، وبالتقدم المذهل في مجال فن العرائس، وكونتُ صداقات مع بعض الدارسين لهذا الفن، وكنتُ في ذلك الوقت العربي الوحيد الذي حضر إلى رومانيا لدراسة فن العرائس، ومع ذلك استطعتُ أن أتفوق في دراستي على عشرات الطلاب الأجانب، وحصلتُ على دبلوم في الإخراج المسرحي لفن العرائس، وعدتُ إلى بلدي مصر وأنا سعيد بما تعلمتُه، وكانت بداخلي أحلام كثيرة من أجل أن ينتشر فن العرائس في مصر والوطن العربي، ليسعد به كل أطفال العالم العربي، وبعد رجوعي قدمتُ بعض العروض الصغيرة، والحمد لله فقد نالت إعجاب الجمهور، وأشاد بها الصحفيون والنقاد.

الليلة الكبيرة

في العام 1960م فكرتُ في أن أقدم عملاً مسرحيًّا كبيرًا للطفل، يكون مختلفًا عما قدمتُه، فتحدثتُ مع صديقي الشاعر الكبير صلاح جاهين، وجاءت فكرة أوبريت «الليلة الكبيرة»، وأثناء كتابة أشعار الأوبريت كنتُ أنا وفنان العرائس ناجي شاكر نعمل ليلاً ونهارًا، لتصميم العرائس بالشكل اللائق الذي يتناسب مع كلمات الأوبريت، وجاءت ألحان سيد مكاوي معبِّرة بصدق عن الأشعار التي كتبها الشاعر صلاح جاهين، تلك التي يتناول من خلالها كل تفاصيل المولد الشعبي الذي تقول بعض كلماته: «الليلة الكبيرة ياعمِّي، والعالم كتيرة... ماليين الشوادر يابا من الريف والبنادر».

وحقق هذا الأوبريت نجاحًا منقطع النظير، وشارك بالغناء فيه مجموعة كبيرة من المطربين منهم سيد مكاوي، وشفيق جلال، ومحمد رشدي، وحورية حسن، وصلاح جاهين، وأصبح أوبريت الليلة الكبيرة حديث الجميع، ليس في مصر فقط، بل في العديد من الدول العربية والأوربية، الذين طالبوا بأن نقدم هذا العرض في بلادهم، ومازال أوبريت الليلة الكبيرة يُعرض حتى الآن في مصر وفي العديد من دول العالم، حيث اعتبره النقاد من أجمل وأشهر ما قُدِّم في تاريخ مسرح العرائس.

المفاجأة

وفي أحد الأيام، وبالتحديد في 3 مارس من العام 1960، أثناء انشغالي بتقديم عرض للعرائس لاحظت أنا وفريق العمل حالة من القلق وأصوات وحركات غير عادية بصالة العرض، ولكني لم أبال ِ بهذا لانشغالي بتقديم العرض، وبعد الانتهاء من العرض المسرحي، كانت المفاجأة حيث اكتشفت أن الزعيم جمال عبدالناصر والدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة في ذلك الوقت، كانا ومن معهم يشاهدون العرض، وأبدوا إعجابهم الشديد به، وتقرر بعدها إنشاء مسرح للعرائس بمنطقة الأزبكية، وأصبحت أنا مديرًا له، ومع ذلك ورغم انشغالي بعروضي وعملي كمدير للمسرح، فإن الإصرار امتلكني وحثني على الاستمرار في الدراسة، فحصلت بالعام 1969م على درجة الماجستير من معهد السينما في الإخراج المسرحي.

أنا والعرائس

ولأنني أحب فن العرائس جدًا، كنتُ أقدم كل عام عرضًا مسرحيًّا جديدًا، يُعرض في مصر أولا، ثم يعرض في العديد من دول العالم، والحمد لله .... كانت جميع العروض تلقى إعجاب الصغار والكبار معًا، ومن هذه العروض سلسلة «صحصح لما ينجح»، وهذه السلسلة من المسرحيات كانت تضم خمس مسرحيات قُدِّمت في العام 1966م، وكانت تتحدث عن الطفل العربي في الكثير من شئون حياته، في بيته، وعلاقته بعائلته، ومدرسته، وعلاقاته بأصدقائه، وقُدمتْ هذه الأجزاء بشكل درامي غنائي رائع ومتميز، كانت من تأليف صلاح جاهين، وموسيقى وألحان محمد فوزي.

وقُدِّمت أيضا مسرحيات: «حلم الوزير سعدون»، «حسن الصياد»، «الأطفال يدخلون البرلمان»، «خرج ولم يعد».

كبار الشعراء

من العروض التي قُدِّمت في السبعينيات وحققت نجاحًا كبيرًا، وكان يقوم بكتابتها في ذلك الوقت كبار الشعراء والمؤلفين مسرحية «صحصح وتابعه دندش»، من أشعار صديقي الشاعر عبدالرحمن الأبنودي، ومسرحية «أبوعلي»، وكانت من تأليف الشاعر سيد حجاب، «وعقلة الإصبع»، و«الديك العجيب» من تأليف صلاح جاهين، ثم توالت بعد ذلك العروض، حيث قدمتُ في الثمانينيات مسرحية «حكاية سقا»، و«السما الثامنة»، و«حمار شهاب الدين»، ومسرحية «صحصح وجميلة»

وأثناء تقديمي لهذه العروض كنتُ مشغولاً جدًا بالعديد من الأبحاث عن تاريخ فن العرائس بشكل عام، وخيال الظل والأراجوز بشكل خاص، وقدمتُ عشرات الأبحاث المهمة في هذا المجال، وهذه البحوث تدرَّس الآن لطلبة الأقسام الخاصة بكلية التربية، ووُزعتْ على مشاركي الدورات التدريبية التي ساهمتُ بها مع وزارة التربية والتعليم في مصر.

تاريخ فـن العرائس

وأثناء أبحاثي في تاريخ فن العرائس، أحسستُ بأنني ورثتُ تراثًا عالميًّا بدأ عند الفراعنة منذ نحو خمسة آلاف عام، ثم انتقل هذا الفن إلى قارة إفريقيا، فاستخدمه الأفارقة في احتفالات الصيد، كما انتشر في دول آسيا، منها: الهند والصين واليابان، وفي دول أوربا، وبشكل خاص في اليونان، ثم التقطه الأمريكيون بعد ذلك.

قدمتُ أيضا خلال أبحاثي تاريخ نشأة هذا الفن في الهند بالتفصيل، حيث ظهر في الهند منذ أربعة آلاف عام، وكان يستخدم من خلال الأسطورتين الهنديتين «ماهبا هاراتا»، و«رامايانا»، وكانتا عبارة عن طقوس هندية دينية، كما استخدم هذا الفن في الهند من أجل النظام السياسي والسخرية منه، ومن ناحية أخرى في عرض القصص الدينية.

الصين

ويبلغ عمر فن تحريك العرائس في الصين نحو ألفي عام، وقد كان لمحركي وصانعي العرائس المتحركة التأثير الكبير في كافة قطاعات المجتمع الصيني في ذلك الوقت، حتى إن تأثيرهم كان يمتد إلى المحاكم وقراراتها الملكية، وذلك في الفترة من سنة 960م إلى 1279م، وكانت تحكم الصين في ذلك الوقت أسرة الملك سونغ.

وشجعت الصين العديد من البلدان الآسيوية الأخرى في انتشار فن العرائس المتحركة فيها، ففي تايلاند كان هناك العديد من الأشكال للعرائس المتحركة، فكانت هناك العرائس المتحركة بالعصا أو القضبان، الذي يتكون من رأس فقط مثبت عن طريق عصا يتم تحريكها من أسفل منصة العرض، كما ظهر في جزيرة «جاوة» عرائس خيال الظل.

الخبز ومسرح العرائس

في أمريكا الشمالية كانت العرائس المتحركة جزءًا لا يتجزأ من احتفالاتهم، فقد انتقل هذا الفن إلى أمريكا والمكسيك بتأثير من أوربا، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية استطاعت أن تكون رائدة في فن العرائس وذلك العام 1960م، فقد كانت تستخدمه في انتقاد الأمور السياسية منها عرض «بيتر شومان»، و«الخبز».

ثم بدأت شعبية هذا الفن تنتشر بشكل قوي مع ظهور التلفزيون، الذي استطاع أن يقدم هذا الفن إلى الصغار والكبار داخل كل بيت وفي كل مكان.

العديد من المناصب

خلال مشواري الفني تدرجت في العديد من المناصب، ففي العام 1960م أصبحتُ مديرًا لمسرح العرائس، ثم مديرًا عاما للمسرح، وفي الثمانينيات أصبحت رئيسًا للبيت الفني للمسرح، ثم توليت رئاسة الإدارة المركزية لهيئة المسرح، وأثناء ذلك عملت أيضًا خبيرًا لفن العرائس في الاتحاد الدولي الـ(UNIMA).

وفي العام 1990 كنتُ رئيس المركز القومي للمسرح والموسيقى الشعبية، ثم عينتُ وكيلا أول لوزارة الثقافة، كما كنت عضوًا بلجنة تحكيم مهرجان سينما الأطفال في مصر، وبرغم كل هذه المناصب وانشغالي بالعمل من خلالها، فإنني كنتُ سعيدًا جدًا لأنني شاركت في إنشاء العديد من مسارح العرائس، ليس في مصر فقط، بل في العديد من الدول العربية مثل: الكويت، وقطر، وسورية، والعراق، وتونس، كما أسعدني بشدة إسعاد أطفال العرب بهذا الفن.

الجوائز

لقد أحببت عملي وأخلصت له، لهذا أكرمني الله وتم تكريمي وحصولي على العديد من الجوائز العربية والعالمية، منها الجائزة الأولى ببرلين في العام 1973م، كما نلت شهادة تقدير من الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1980م، ومنحني عمدة بلدة مستل باخ بالنمسا شهادة تقدير في العام 1989م بمناسبة عرض «الليلة الكبيرة» هناك، وكنت في قمة السعادة، لأن أطفال النمسا وكبارها أشادوا بأوبريت الليلة الكبيرة وانبهروا بدقة العمل.

كما حصلت على الميدالية الذهبية لمهرجان دول البحر المتوسط بإيطاليا في العام 1986م، إلى جانب تكريمي من المسرح القومي المصري، ولكن أكبر تكريم لي هو أني استطعت أن أسعدكم، فقد حرصت خلال مشواري الفني أن أزرع فيكم - من خلال أعمالي - جميع الصفات الطيبة التي زرعتها في ابني الفنان أحمد السقا، وهي الشجاعة وحب الغير، والكرم، وحب الفن، والتفاني في العمل الذي نحبه، حتى نتميز فيه.

 


 

كتبته: حسنات الحكـيم

 




غلاف هدية العدد