رَحَلْتُ.. ورَأيْتُ: أَحْفادُ حاتِمٍ في موريطانْيا.. العربي بنجلون

رَحَلْتُ.. ورَأيْتُ: أَحْفادُ حاتِمٍ في موريطانْيا.. العربي بنجلون
        

          مازِلْتُ أذْكُرُ لَيْلَةً صَيْفِيَّةً، شَعَرْتُ فيها بِالْمَلَلِ، فَلَمْ أَجِدْ رَغْبَةً في أنْ أُشاهِدَ التِّلْفازَ، أوْ أَلْهُوَ بِلُعْبَتي الآلِيَّةِ، أوْ أَسْتَلْقِيَ عَلى فِراشي الْوَثيرِ، عَلَّني أصيدُ طائرَ النَّوْمِ، فَيَحْمِلَني مَعَهُ إلى عالَمِ الأحْلامِ الْجَميلَةِ.

          تَساءَلْتُ في نَفْسي: لِماذا لا أَنْصَرِفُ إلى الْحَيِّ، الَّذي يَكْتَظُّ بِالْغادينَ والرّائحينَ، فَلَرُبَّما أجِدُ صَديقاً مِنْ أصْدِقائي، لَمْ يَطِقْ مِثْلي الْبَقاءَ في الْمَنْزِلِ؟

          لَبِسْتُ ثِيابي بِسُرْعَةٍ، ثُمَّ وَقَفْتُ أمامَ الْمِرْآةِ أُسَوِّيها،  وأَمْشُطُ شَعْري. وما كِدْتُ أضَعُ الْمُشْطَةَ جانِباً، حَتَّـى سَمِعْتُ صَوْتاً خافِتاً، يَهْمِسُ في أُذُنَيَّ:

          - اِسْمَحْ لي أنْ أسْألَكَ: إلى أيْنَ تُريدُ الذَّهابَ في هَذِهِ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ؟

          تَناوَلْتُ قُطْناً أمْسَحُ بِهِ أُذُنَيَّ كِلْتَيْهِما، كَيْ إذا عادَ الصَّوْتُ أسْمَعُهُ جَيِّداً أوْ أتَأكَّدَ مِنْهُ. وبَعْدَ ثَوانٍ، كَرَّرَ السُّؤالَ نَفْسَهُ، فَأجَبْتُهُ مُتَلَعْثِماً:

          - أُريدُ.. أنْ أتَخَلَّصَ.. مِنَ الْمَلَلِ والْحَرِّ الشَّديدِ!

          انْتَظَرْتُ الإجابَةَ دونَ جَدْوى، فَخَطَرَ بِبالي أنْ أُثَبِّتَ عَيْنَيَّ عَلى الْمِرْآةِ، لأنَّ الصَّوْتَ يَصْدُرُ مِنْها، وإذا بِها تَفْتَحُ شَفَتَيْها باسِمَةً، فَأدْرَكْتُ بِما لا يَدْعو إلى الشَّكِّ أنَّها صاحِبَةُ الصَّوْتِ.

          كُنْتُ أعُدُّها مِرْآةً فَقَط، ولا أدْري مُنْذُ مَتى وهِيَ مُعَلَّقَةٌ عَلى جِدارِ غُرْفَتي، كَأيِّ أثاثٍ في مَنْزِلي. أرى فيها نَفْسي كُلَّ يَوْمٍ، صَباحَ مَساءَ، ولَمْ أَظُنَّ أنَّ لَها صَوْتاً مِثْلَ الإنْسانِ، ولا أنْتُمْ سَتُصَدِّقونَني، أوْ تَتَصَوَّرونَ أنَّ لِلْمِرْآةِ صَوْتاً بِالْمَرَّةِ، لَكِنْ، هَذا ماحَصَلَ لي بِالضَّبْطِ، يَأَصْدِقائي!

          وأخيراً، أجابَتْني بِعُذوبَةٍ، كَأنَّها أُمِّي الْحَنونُ:

          - اُنْظُرْ إلَيَّ، بُنَيَّ!..لا تُحَوِّلْ عَيْنَيْكَ الصَّغيرَتَيْنِ عَنِّي، وثَبِّتْهُما فِيَّ، ماذا تَرى؟..هَيّا قُلْ، لا تَتَلَعْثَمْ أوْ تَنْدَهِشْ!

          قُلْتُ لَها في ذُهولٍ تامٍّ، وأنا أدْعَكُ عَيْنَيَّ بِيَدَيَّ، الْمَرَّةَ تِلْوَ الْمَرَّةِ:

          - يَالَلْغَرابَةِ!.. شَيْءٌ لا يُصَدِّقُهُ الْعَقْلُ!.. أرى طَريقاً طَويلاً عَريضاً..

          قاطَعَتْني قائلَةً:

          - تَحَرَّكْ، تَحَرَّكْ، يَابُنَيَّ، لا تَظَلَّ واقِفاً هَكَذا كَالتِّمْثالِ.. أَطْلِقْ رِجْلَيْكَ في هَذا الطَّريقِ.. هَيّا، لا تَتَرَدَّدْ لَحْظَةً!

          مَدَدْتُ رِجْلي حَذِراً، خُطْوَةً، خُطْوَتَيْنِ، ثَلاثاً..إذا بي أجِدُ نَفْسي في صَحْراءَ قاحِلَةٍ،  لا ماءَ ولا كَلأَ غَيْرَ الْكُثْبانِ الرَّمْلِيَّةِ  الثّابِتَةِ مِنْها والْمُتَحَرِّكَةِ، والْهِضابِ الصَّخْرِيَّةِ. أحْسَسْتُ بِعَطَشٍ شَديدٍ، فَأخَذْتُ أبْحَثُ عَنْ ماءٍ، أَبُلُّ بِهِ حَلْقي، فََلَمْ أعْثُرْ عَلى بِئْرٍ أوْ عَيْنٍ. ومِمّا زادَني دَهْشَةً، أنَّني ما أكادُ أصْعَدُ كَثيباً رَمْلِياًّ، حَتّى تَنْقُلَهُ الرِّيحُ إلى جِهَةٍ أُخْرى، كَأنَّ هَذِهِ الطَّبيعَةَ الْجَدْبَةَ تُلاعِبُني أوْ تُعاكِسُني!

          وفَجْأةً، لَمَحْتُ مِنْ بَعيدٍ واحَةً، فَطِرْتُ إلَيْها فَرِحاً. ولَمّا وَصَلْتُها، وأنا ألْهَثُ مِنَ الظَّمَإِ، وَجَدْتُ راعِياّ مِنَ «السُّودانِ» جالِساً تَحْتَ نَخْلَةٍ ظَليلَةٍ، فيما كانَ قَطيعٌ مِنَ الْغَنَمِ والْمَعْزِ يَرْعى الْكَلأَ والْعُشْبَ الطَّرِيَّ:

          - اَلسَّـ..لامُ ..عَلَيْكُمْ!

          نَهَضَ مِنْ مَكانِهِ مُرَحِّباً بي:

          - وعَلَيْكُمُ السَّلامُ، تَفَضَّلْ، اُقْعُدْ مَعي، هَلْ تَشْتَهي نَفْسُكَ شَيْئاً؟

          أجَبْتُهُ لاهِثاً:

          - أجَلْ.. أُريدُ قَليلاً.. قَليلاً مِنَ الْماءِ!

          - حاضِرٌ، أخي، اِنْتَظِرْ بُرْهَةً!

          بِسُرْعَةِ الْبَرْقِ، ودونَ تَرَدُّدٍ، تَسَلَّقَ النَّخْلَةَ، وأنْزَلَ قِرْبَةً مُعَلَّقَةً بِها. فَخَطَفْتُها مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وهُوَ يَضْحَكُ بِمِلْءِ فيهِ (فمه):

          - تَمَهَّلْ، أَخي، وإلاَّ أصابَتْكَ غُصَّةٌ، وبَدَلَ أنْ كُنْتَ تَبْحَثُ عَنْ ماءٍ، سَتَبْحَثُ عَنْ طَبيبٍ!

          - شُكْراً جَزيلاً عَلى نَصيحَتِكَ الْغالِيَةِ!

          وفَتَحَ جِرابَهُ، لِيُخْرِجَ مِنْهُ حَبّاتٍ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ تَناوَلَ طاسَةً، ومَلأَها بِحَليبِ الْماعِزِ:

          - تَفَضَّلْ، قاسِمْني هَذِهِ الْوَجْبَةَ الصَّحْراوِيَّةَ!

          اِبْتَسَمْتُ قائلاً:

          - يَظْهَرُ لي أنَّكَ مِنْ أحْفادِ حاتِمٍ الطّائِيِّ! 

          أكَّدَ كَلامي بِابْتِسامَةٍ:

          -لا تَنْسَ أنَّ حَياتَنا، نَحْنُ الشَّناقِطَةَ، لا تَخْتَلِفُ عَنِ الْحَياةِ الَّتي عاشَها الْعَرَبُ الْقُدامى في عُصورِهِمُ الزّاهِيَّةِ؛ فَعاداتُنا وتَقاليدُنا وثَقافَتُنا عَرَبِيَّةٌ عَريقَةٌ، تَمْتَدُّ جُذورُها إلى قَبائلِ بَني هِلالٍ، وبَني مَعْقِلٍ، وأوْلادِ بوسْباعٍ، وبَني حَسّانٍ. ولِهَذا يُسَمُّونَنا بِـ «الْحَسّانِيِّينَ» ولَهْجَتَنا بِـ«الْحَسّانِيَّةِ» وهِيَ فَصيحَةٌ، بَلْ أفْصَحُ لَهْجَةٍ عَرَبِيَّةٍ. ويَنْدُرُ أنْ تَزورَ بَيْتاً، فَلا يُكْرِمُكَ أهْلُهُ.  فَالْبَذْلُ والْجودُ والسَّخاءُ مِنْ شِيَمِنا الْعَرَبِيَّةِ، وَرِثْناها أباً عَنْ جَدٍّ!

          اِلْتَفَتُّ يَميناً ويَساراً، فَلَمْ أرَ إلاّ رِمالاً، وآثارَ مَدينَةٍ تَبْدو مِنْ بَعيدٍ. سَألْتُهُ مُتَعَجِّباً:

          - وبِماذا تُسَمَّى هَذِهِ الْمِنْطَقَةُ؟

          رَدَّ ضاحِكاً:

          - ألَمْ أقُلْ لَكَ: «نَحْنُ الشَّناقِطَةَ»؟!..يَعْني أنَّ مِنْطَقَتَنا «شَنْقيطُ» الَّتي - كَما تَراها - أصْبَحَتْ أثَراً بَعْدَ عَيْنٍ، وهِيَ الَّتي كانَتْ مَدينَةً عِلْمِيَّةً وتِجارِيَّةً، أيْ تَجْمَعُ بَيْنَ الْحُسْنَيَيْنِ؛ الْحَضارَةِ والتِّجارَةِ. 

          وشَنْقيطُ تُلَخِّصُ تاريخَنا الْموريطانِيَّ، بِاعْتِبارِها مَدينَةً عَريقَةً،كانَتْ تُسَمّى «آبيرْ» عِنْدَما تَأسَّسَتْ أوَّلَ مَرَّةٍ سنة 160هـ/ 776مِ،. وشَهِدَتْ قُروناً مِنَ الرَّفاهِيَّةِ والتَّطَوُّرِ، قَبْلَ أنْ تَنْدَثِرَ  ويَأْتِيَ حَبيبٌ بْنُ أبي عُبَيْدَةَ بْنِ عُقْبَةَ لِيُؤَسِّسَها لِلْمَرَّةِ الثّانِيَةِ سَنَةَ 660هـ/1262مِ.

          - وعَلى ماذا يَدُلُ اسْمُ هَذِهِ الْمَدينَةِ الأثَرِيَّةِ؟

          - «شَنْقيطُ» كَلِمَةٌ في اللُّغَةِ الأزْرِيَّةِ، تَعْني «عُيونَ الْماءِ» ومِنْها سَقَيْتُ الْماءَ الْبارِدَ الَّذي أطْفَأَ عَطَشَكَ.

          - يا لَهُ مِنْ ماءٍ عَذْبٍ صافٍ!..إيهِ، زِدْنِي حَديثاً عَنْ مَدينَتِكَ شَنْقيطَ!

          اِسْتَوى في جِلْسَتِهِ، وقالَ:

          - ألا تَعْلَمُ أنَّ اسْمَ «شَنْقيطَ» كانَ يُطْلَقُ عَلى بِلادي كُلِّها بِمُدُنِها وقُراها، وبَحْرِها وصَحْرائِها؟..كَما كانَتْ تُسَمَّى «بِلادَ الْمُلَثَّمينَ» لأَنَّ سُكَّانَها كانوا يَضَعونَ «النِّقابَ» على وُجوهِهِمْ، فَلا تَظْهَرُ إلاَّ مَحاجِرُ عُيونِهِمْ.

          سَألْتُهُ في دَهْشَةٍ:

          - لا، لَمْ أقْرَأْ ذَلِكَ، أوْ أسْمَعْ بِهِ، وكَيْفَ تَحَوَّلَ إلَى «موريطانْيا»؟

          - في بِدايَةِ الْقَرْنِ الْعِشْرينَ، أطْلَقَ عَلَيْها الْمُسْتَعْمِرونَ الْفَرَنْسِيّونَ «مورْ» ويَقْصِدونَ بِها الْمَغارِبَةَ الْمُسْلِمينَ، لأنَّ الشَّناقِطَةَ والْمَغارِبَةَ عاشوا طيلَةَ التّاريخِ مُتَآلِفينَ مُتَعاوِنينَ  تَرْبِطُهُمُ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ، والدِّينُ الإسْلامِيُّ، والْحَضارَةُ والْقِيَمُ النَّبيلَةُ؛ فَمَثَلاً، الدَّوْلَةُ  الْمُرابِطِيَّةُ الَّتي حَكَمَتِ الْمَغْرِبَ، كانَتْ تَسْتَقِرُّ في الْبِلادِ الشَّنْقيطِيَّةِ، والْعَرَبُ الَّذينَ سَكَنوا السّاحِلَ الْموريطانِيَّ، هُمُ الَّذينَ قَدِموا إلى الْمَغْرِبِ، وهَكَذا...لَكِنْ هُناكَ مَنْ يَقولُ إنَّ أَصْلَ هَذا الاِسْمِ رومانِيٌّ «تَمورْتْنا» أيْ أرْضُنا.

          ولَمّا تَأسَّسَتِ الدَّوْلَةُ، انْتَقَلَتِ الْعاصِمَةُ مِنْ مَدينَةِ شَنْقيطَ إلى مِنْطَقَةٍ ساحِلِيَّةٍ بَيْنَ الشَّمالِ والْجَنوبِ، عام 1957 وأطْلَقوا عَلَيْها اسْمَ «نْواكْشوطْ» أوْ«نوقُ الشَّطِّ» وهُوَ يَتَرَكَّبُ مِنْ كَلِمَتَيْنِ:«نوقٌ» و«شَطٌّ» أيْ «أُنْثى الْجَمَلِ» و«شاطِئُ الْبَحْرِ». تَحْتَوي عَلى مَطارٍ وميناءٍ، ومَتْحَفٍ كَبيرٍ، يَعْرِضُ لِلزائرينَ قِطَعاً أثَرِيَّةً، ولَوَحاتٍ فَنِّيَّةً، وألْبِسَةً تَقْليدِيَّةً. كَما تَتَوَفَّرُ عَلى «سوقٍ»  يَخُصُّ النِّساءَ فَقَطُّ، يَبِعْنَ فيهِ الأقْمِشَةَ الْمُتَنَوِّعَةَ، والْحَلْيِ. وحَيٌّ  «لُكْسَرْ» التِّجارِيُّ.

          - لَقَدْ أمْتَعْتَني وأفَدْتَني بِهَذِهِ الْمَعْلوماتِ.

          - ألاَ تَأْتيني كُلَّ يَوْمٍ لِتُؤْنِسَني في وَحْدَتي وعُزْلَتي، فَلَيْسَ لي مِنْ صَديقٍ في هَذِهِ الْواحَةِ إلاّ النَّخيلُ وقَطيعُ الْغَنَمِ والْمَعْزِ؟

          - وأنا يَسُرُّني أنْ أتَّخِذَكَ صَديقاً، ياحَفيدَ حاتِمٍ، تُفيدُني بِأحاديثِكَ الشائقة، وتُنَمِّي جِسْمي بِتَمْرِكَ وحَليبِكَ.. أهُناكَ مَدينَةٌ أُخْرى، غَيْرَ شَنْقيطَ ونْواكْشوطْ؟

          - طَبْعاً، توجَدُ مَدينَةُ «نْواذيبو» أوْ كَما كانَ الْمُسْتَعْمِرونَ يُنادونَها بِـ«بورْتْ إتْيانْ» ومَعْنى «نْواذيبو» مَكانُ الذِّئْبِ..وهِيَ عاصِمَتُنا الاِقْتِصادِيَّةُ، تَحْتَوي عَلى ميناءٍ ومَطارٍ، تُصَدَّرُ مِنْهُما الْمَعادِنُ، كَالنُّحاسِ والْحَديدِ. وسُكّانُها مِنَ «الْبيضانِ» يَتَحَدَّثونَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحى. وفي جَنوبِها، تَجِدُ قَرْيَةَ «كانْسادو» الَّتي تَبْعُدُ عَنْها بِعَشْرَةِ كيلومِتْراتٍ، وتَمُرُّ بِها سِكَّةٌ حَديدِيَّةٌ، لِنَقْلِ الْمَعادِنِ إلى الْميناءِ.

          وبَيْنَما أنا أُصْغي إلى حَديثِهِ، وأَسْتَمْتِعُ بِلَهْجَتِهِ الْحَسّانِيَّةِ الْجَميلَةِ، لَمْ أَشْعُرْ بِسُلْطانِ النَّوْمِ إلاَّ وهُوَ يَحْمِلُني بَيْنَ كَفَّيْهِ بِخِفَّةِ الرّيشَةِ. وفي الصَّباحِ، اسْتَيْقَظْتُ باكِراً،  فَوَجَدْتُ نَفْسي مُلْقًى عَلى سَريري الْوَثيرِ، لاعَلى الرِّمالِ الذَّهَبِيَّةِ النّاعِمَةِ.