نَبتةٌ مزهِرةٌ

نَبتةٌ مزهِرةٌ
        

          كانتْ أمُّ صباحٍ مولعةً بتربيةِ النباتاتِ في فناءِ البيتِ وشرفاتِهِ، وكانتْ تزيّنُ بها مداخلَ الغُرف، حتّى أصبحَ البيتُ جنّةً فيحاء.

          وكانتْ أمُّ صباحٍ تعتني بنباتاتِها، فتسقيهاَ كُلَّما احتاجَتْ إلى ذَلك، وتُشذِبُ (تهذب) أغْصانَها، وتُزيلُ الأوْراقَ الذَّابِلَة لتنْمُوَ في مكانِها أوْرَاقٌ أُخْرى يانِعة، وتُعَرِّضُها للضَّوْء حتَّى تأخُذَ حاجتَها منه، وتمنعُ عنها الرياحَ حتى لا تُلوحهَا أو تكسرَ أغصانَها الطريّةِ. وما تمضي الشهورُ حتى تغيّرَ ترابَها بترابٍ جديدٍ غنيّ بالأسمدةِ التي تتغذى منهَا تلكَ النباتات.

          لاحظتْ أمُّ صباحٍ أن نباتاتِها تبدأُ في النموِّ مع حلولِ شهر مارس، وتستمرُّ في العطاءِ والاخضرارِ حتى شهرِ أكتوبر، وفي تلك الفترةِ من سموقِ (نمو) النباتاتِ وعطائهَا، تقومُ أمُّ صباحٍ بالتوليدِ منها، فتخرجُ منها شتائلَ صغيرةً تزرعهَا في أصُصٍ مستقلّة. تكبرُ الشتائلُ فتنمو لها جذورٌ تمتدُّ في الترابِ، وتنمو لها أغصانٌ تمتدُّ في الفراغ، والأغصانُ تخرجُ منها ورود جميلةٌ بعدّةِ ألوانِ، فيعبقُ (يمتلئ) البيتُ بالروائحِ الزكيةِ.

          كانت النباتاتُ تتكاثرُ في البيتِ، بأنواعِها المختلفةِ، وكانت أمُّ صباحٍ تعرفُ جارةً لها، مولعةً هي الأخرى بتربيةِ النباتاتِ، فأخذتْ تتبادلُ معها الشتائل، من أجلِ أن تنوّع كلُّ واحدةٍ من الجارتينِ مما عندَها من نباتات، كما كانتا تتبادلانِ الخبراتِ والتجارب في مجالِ الاعتناءِ بالنباتاتِ وحاجتها إلى السقيِ والضوءِ، وطُرُقِ ومواعيد توليدِها، فاستفادَت الجارتانِ من ذلك، وأصبحتا تنشرانِ بينَ الجاراتِ الأخرياتِ هذا الإحساسَ بجمالِ البيوتِ التي توجدُ في شرفاتِها وفناءاتها نباتاتٌ خضراءُ تزهرُ في مواعيدِ الإزهار.

          كبُرت صباح، وبدأت تخطُو في أرجاءِ البيتِ، وكان أوّلُ ما فعلتْه، هو تكسيرُ أغصانِ بعضِ النباتات، وتمزيقُ أوراقِ أخرى، وقطفُ وردةٍ حمراء يانعةٍ وتفتيتُ أوراقِها.

          لمّا رأتْ أمُّ صباحٍ ما فعلتْهُ ابنتُها، اغتاظَت، ولكنّها بحكمتِها لمْ تلجأ إلى ضربِ صباح، وفكّرَتْ:

          - لماذا فعَلتْ صباحٌ هذا؟

          أعْطَتْ أمُّ صباحٍ ابنتَها ورقةً بيضاءَ وأقلاماً ملوّنة، وطلَبَتْ منْها أنْ ترسُمَ وردة. ساعدتْها على ذلك برسْمِ السَّاقِ أوّلاً، ثُمَّ الأوْراق، ثمّ الوَرْدَة، وسَاعَدَتْهَا على تلْوينِ الرَّسْمِ بالأقْلاَمِ المُلَوَّنة، فَكانَ الرَّسْمُ جميلاً، قامَتْ أُمُّ صباح بوضعِهِ على جدارٍ في غرفَةِ نومِ صباح.

          أُعْجِبَت صباحٌ بالوردةِ التي رَسَمَتْهَا، وأَخَذَتْ تَتطلَّعُ إليْها كُلّما دخلتْ غُرْفَةَ نَوْمها، لكنّها لم تُقلع عن عادَتها في كسرِ أغصانِ بعضِ النباتات، وتمزيقِ أوراقِ أخرى، وقطْفِ وردةٍ حمراء يانعةٍ وتفتيتِ أوْراقِهَا.

          زادَ غيظُ والدتِها، التي تَرى حياتَها في حياةِ تلكَ النباتات. لم يكُنِ الأمْرُ مجرّد هوايةٍ تملأُ بها الفراغ، بلْ كانَ عشقاً لطفوحِ واخضرارِ تلكَ النّباتات، فإن أيْنعتْ واخضرَّتْ فهي تشعُرُ بالغبطةِ والفرح، وإنْ ذَبُلَتْ فهي تحزَنُ وتشعرُ بالتقصيرِ تُجاهَهَا.

          فكّرتْ أمُّ صباحٍ في أنَّ ابنتها كانت تراقبُ عملَها وهي ترْعَى نباتاتِها، بكثيرٍ من التّجاهلِ والتأفُّف، ورُبّما تكون قد غارَتْ من اهتمامِ أمِّها بالنباتات، ورأتْ أنَّ كلَّ وقت أمّها يجبُ أنْ يكونَ لها.

          زادَتْ أمُّ صباحٍ من اهتمامِها بابنتها، فصارتْ تحضُنُها وتُقبّلُها وتُلاعبها، وتخرُج معها إلى الحديقةِ، وفي المساء تُعطيها أوراقاً بيضاء لترسمُ عليها مزهريّاتٍ بها زهورٌ وأشجار ومساحاتٍ خضراء. وفي الليلِ تحكي لها القصصَ المسليّة.

          ومع ذلك، استمرَّتْ أمُّ صباح في رعايةِ نباتاتِها والعنايةِ بها.

          جاءَ يومٌ فرأتْ صباحٌ ابنتَها تقومُ في الصَّباحِ الباكرِ فتسقي النَّباتاتِ بمسقاةٍ هي التي تستعمِلُها أمُّها للسَّقْي، ثم رأَتْها تُزيلُ بعضَ الأعشابِ الضارَّة، وتُقلِّبُ التُّرابَ المتبلدَ بآلةٍ صغيرةٍ هي التي تستعملُها والدتُها لتقليب الترابِ حتى ينفُذَ إليه الهواء.

          عجبتْ صباحٌ لما تفعلُهُ ابنتُها، وأدركتْ أنّها قد أصبحت تحبُّ النباتاتِ التي في البيت، وتشاركُ أمَّهَا في تربيتِها، وهي تشعرُ بالسعادةِ التي تشعُر بها والدتُها.

          بدأتْ صباحٌ تولعُ بنباتاتِ الفناء، فتنظُرُ إليْهَا وهيَ تَخْضَرُّ وتَتَرعْرَع، كمَا بدَأتْ تزْرَع بعضَ الشَّتائِل في أصُص صغيرة، وتخبرُ أمّها بأنَّ تلكَ الأغراسَ لها وحْدَها، فتُطمئنُها أمُّها إلى ذلك.

          أخذتْ صباحٌ تسألُ أمَّها عنْ أوقاتِ سَقْي النباتات، وطرُقِ العنايةِ بها، وتحاولُ تنفيذَ تلكَ الطُّرُقِ بمساعدةِ أُمِّهَا.

          تفَنّنَتْ صباح في تنظيم أغراسِ الفناء، وصَارَتْ تدعو الأسرة للإفطار فيه، حتّى تفرحَ الأعيُنُ برؤيةِ الحَبق والسُّوسانِ والبهاءِ والمَرْوِ ونباتاتِ أخرى وهي تطفحُ بالاخضرار.

          فرحت أمُّ صباحٍ بابنتها وما تفعل، وفرِحت أكثرَ لمّا رأتْها تسألُ عن أسماءِ النباتاتِ وأشكالِهَا، وهل تكونُ لها زهورٌ ذاتُ ألوان، وهلْ تعيشُ في الظلِّ أم تحتاجُ إلى ضوءِ وحرارة الشمسِ، وغير ذلك من الأسئلة، زادَ فرحُ أمِّ صباحٍ بابنتِها عندما رأتْها ترْسُمُ تلكَ النباتات، وتكتُبُ أسماءَها تحتَ تلكَ الرُّسُوم.

          وَذَاتَ يومٍ فاجأتْ صباحٌ والِدَها وهي تُلحُّ عليْهِ في أنْ يُرافقها إلى السُّوق، وتتكتّمُ عن السّبب، فطاوَعها والِدُها، ولمّا صارا في السُّوقِ قالت له:

          - أَرْشِدْني يا أبِي إلى بائعٍ للنَّباتاتِ المُزْهرة.

          تعَجَّبَ والِدُها من طَلَبِها وقالَ لَها:

          - أَلِهذا أحْبَبْتِ الخُرُوجَ معي؟

          قاَلت:

          - أُحبُّ شِراءَ نبْتةٍ مُزْهِرة.

          رَدَّ عليْهَا والِدُهَا:

          - لَدَيْكِ مِنْها الكَثيرُ في الْبَيْت.

          فقَالَت:

          - أرْغَبُ في نَوعٍ لا يوجدُ في بَيْتِنا، زُهُورُهُ يانعةً طوالَ السنَّة، حتَّى أهديَهُ لأُمِّي.

          سََألَها والِدُها:

          قاَلَتْ:

          - الْيَوْم عيدُ الأُمِّ يا أَبي.

          فضَحِكَ والِدُها وحَقَّقَ لَهَا رغْبَتها.

 


 

محمد عزالدين التازي