رَحَلْتُ.. ورَأيْتُ.. لاوْسْ أرْضُ مَلْيونِ فيلٍ.. كتبها: العربي بنجلون

رَحَلْتُ.. ورَأيْتُ.. لاوْسْ أرْضُ مَلْيونِ فيلٍ.. كتبها: العربي بنجلون
        

رسمها: رضوان  الرياحي

          اَلنَّهارُ كانَ جَميلاً، ولَوْ كُنْتُ كاتِباً، لَوَصَفْتُ لَكُمُ الشَّمْسَ الضَّاحِكَةَ، تُرْسِلُ نورَها الذَّهَبِيَّ، لِتُدْفِئَ الْحُقولَ والسُّهولَ، والتِّلالَ والْجِبالَ..ولَوَصَفْتُ حَفيفَ الشَّجَرِ، وخَريرَ الْمِياهِ الْعَذْبَةِ الرَّقْراقَةِ، وتَغْريدَ الْبَلابِلِ، وهَديلَ الْحَمامِ، وثُغاءَ الْخِرْفانِ الْوَديعَةِ، وضَحِكَ الْقُرودِ النَّشيطَةِ.

          كُنْتُ في الْغابَةِ الْخَضْراءِ، أسيرُ بَيْنَ الأشْجارِ الْمورِقَةِ، أتَنَسَّمُ الْهَواءَ النَّقِيَّ، وأُمَلِّي عَيْنَيَّ بِمَناظِرَ طَبيعِيَّةٍ فاتِنَةٍ يَعِزُّ نَظيرُها.

          وبَيْنَما أنا كَذلِكَ، إذْ بِي أسْمَعُ أنيناً خافِتاً، يَأْتينِي مِنْ بَعيدٍ. تَتَبَّعْتُ الصَّوْتَ، خُطْوَةً خُطْوَةً، حَتّى اقْتَرَبْتُ مِنْ شَجَرَةٍ ضَخْمَةٍ ظَليلَةٍ، فَوَجَدْتُ فيلاً يَبْرُكُ تَحْتَها؛ وَجْهُهُ شاحِبٌ وعَيْناهُ ذابِلَتانِ، يُمْسِكُ بِقائِمَتِهِ الأمامِيَّةِ الْيُمْنى، ويَئِنُّ مُتَألِّماً!

          تَساءَلْتُ في نَفْسي مُتَعَجِّباً:

          - هَذِهِ لَيْسَتْ أرْضَ فِيَلَةٍ، فَمِنْ أيْنَ أتى؟ ..هَلْ هَرَبَ مِنَ السِّيرْكِ، أمْ مِنْ حَديقَةِ الْحَيَوانِ؟!

          تَألَّمْتُ لِحالِهِ السَّيِّئَةُ، فَسَألْتُهُ مُسْتَغْرِباً:

          - مِمَّ تَشْكو، أيُّها الْفيلُ اللَّطيفُ؟!

          تَنَهَّدَ مُجيباً بِصَوْتٍ حَزينٍ:

          - لَقَدْ دُسْتُ شَوْكَةً طَويلَةً، فَانْغَرَزَتْ في قَدَمي، ولَمْ أسْتَطِعْ سَلَّها!

          وصَمَتَ بُرْهَةً، قَبْلَ أنْ يَزيدَ:

          - هَلاَّ تُحاوِلُ أنْ تُخْرِجَها، ولا تُريقُ قَطْرَةً مِنْ دَمي؟

          أجَبْتُهُ بِثِقَةٍ:

          - طَبْعاً، كَيْفَ لا أُساعِدُكَ، وجَدُّكَ (مَحْمودٌ) يَرْحَمُهُ اللَّهُ، رَفَضَ أنْ يُهَدِّمَ الْكَعْبَةَ الْمُشَرَّفَةَ، وسَوْطَ أبْرَهَةَ الْحَبَشِيِّ يَنْهالُ عَلَيْهِ؟!..هَذا أقَلُّ ما يُمْكِنُني أنْ أفْعَلَهُ، عَلَّني أرُدُّ قَدْراً مِنَ جَميلِ جَدِّكَ النَّبيلِ!

          وبِرُؤوسِ أصابِعي الْمُرْتَعِشَةِ، انْحَنَيْتُ أسُلُّ الشَّوْكَةَ بِرِفْقٍ، وبَيْنَ الْحينِ والآخَرِ، ألْتَفِتُ إلَيْهِ، لأرى ما إذا كُنْتُ أُولِمُهُ أمْ لا. وبَعْدَ قَليلٍ، أخْرَجْتُها، فَشَعَرَ بِالرّاحَةِ والطُّمَأْنينَةِ، وأمْطَرَني بِالشُّكْرِ، حَتّى أنَّني خَجِلْتُ، فَقُلْتُ لَهُ:

          - إنَّ اللَّهَ خَلَقَنا لِنَتَعاوَنَ ونَتَآلَفَ، لا لِنَتَفارَقَ ونَتَخالَفَ. لَكنْ، كَيْفَ أتَيْتَ إلى هَذِهِ الْغابَةِ، الْخالِيَةِ مِنَ الْفِيَلَةِ؟

          اِغْرَوْرَقَتْ عَيْناهُ بِالدُّموعِ قائلاً:

          - أنا مِنْ بَلَدِ (لاوْسَ) أرْضِ مَلْيونِ فيلٍ..

          قاطَعْتُهُ مُتَسائِلاً:

          - وأيْنَ يَقَعُ هَذا الْبَلَدُ ؟..أنا لَمْ أسْمَعْ بِهِ مِنْ قَبْلُ!

          - لاوْسُ، دَوْلَةٌ في آسْيا، بَيْنَ الصِّينِ وفيتْنامَ، وتايْلانْدَ وكمْبودْيا وبورْما. وهيَ أرْضٌ جَبَلِيَّةٌ، تُغَطِّيها مِساحاتٌ شاسِعَةٌ مِنَ الأشْجارِ الْمُتَنَوِّعَةِ. اِحْتَلَّها الْفَرَنْسِيّونَ عامَ 1893وخِلالَ الْحَرْبِ الْعالَمِيَّةِ الثّانِيَةِ، ضَمّوها إلى الْهِنْد الصِّينِيَّةِ. وفي 1955 أصْبَحَتْ دَوْلَةً مُسْتَقِلَّةً، عاصِمَتُها (فْيينْتْيانُ).

          - وهَلْ حَقاًّ يوجَدُ فيها مَلْيونُ فيلٍ؟

          ضَحِكَ مِنْ سُؤالي:

          - فَكِّرْ مَعي: لَوْ كانَ هَذا الْعَدَدُ صَحيحاً، لَكُنّا، نَحْنُ الأفْيالَ سُكّانَها، لا الْبَشَرُ، ولَمَا تَرَكْتُها. وكُلُّ ما في الْحِكايَةِ أنَّ اسْمَ (لاوْسَ) يَعْني مَلْيونَ فيلٍ. أمّا عَدَدُنا الْحَقيقِيُّ، فَلا يَتَعَدّى خَمْسَمِئَةِ، لا أقَلَّ ولا أكْثَرَ. نُسْتَعْمَلُ في الأعْمال الشَّاقَّةِ، كَشَدِّ جُذوعِ الأشْجارِ، وقَطْعِها وحَمْلِها، وفي جَرِّ الْعَرَباتِ الثَّقيلَةِ، وعَرَباتِ النَّقْلِ، بَدَلَ الْحافِلاتِ وسَيّاراتِ الأُجْرَةِ. وبِما أنَّ الصَّيّادينَ يَنْتَزِعونَ أنْيابَنا، لِبَيْعِها بِأثْمانٍ باهِظَةٍ، فَقَدْ تَقَلَّصَ عَدَدُنا جِداًّ، ولا يوجَدُ قانونٌ يَحْمينا، مِثْلَ الْبانْدا والْقُنْغُرِ..

          - ألِهَذا الْتَجَأْتَ إلى هَذِهِ الْغابَةِ الْهادِئَةِ؟

          - أجَلْ، وهَلْ هُناكَ مَنْ يَهْجُرُ وَطَنَهُ، إذا كانَ آمِناً؟.. مازِلْتُ أذْكُرُ نَهْرَ (ميكونْغْ) الَّذي يَبْلُغُ طولُهُ خَمْسَةَ عَشْرَ كيلو مِتْراً، يَسْتَفيدُ مِنْهُ الْفَلاّحونَ، الَّذينَ يَزْرَعونَ الأُرْزَ في أحْواضٍ تَغْمُرُها الْمِياهُ، كَما نَسْتَفيدُ مِنْهُ نَحْنُ كَذَلِكَ، إذْ يَلْزَمُ الْواحِدَ مِنّا لِشُرْبِهِ ألْفُ لِتْرٍ مِنَ الْماءِ، هَذا عَدا السِّباحَةَ فيهِ.

          - وكَيْفَ حالُ سُكّانِ لاوْسَ؟

          - سُكّانُها طَيِّبونَ جِداًّ، يَحْتَرِمونَ مَعابِدَهُمْ، فَلا يَدْخُلونَها بِأحْذِيَتِهِمْ وأخْفافِهِمْ، بَلْ حَتّى بُيوتَهُمْ، يَتْرُكونَها بِعَتَبَةِ الْبابِ، كَيْ يُحافِظوا عَلى نَظافَةِ مَنازِلِهِمْ. ويَحْتَرِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، فَهُمْ سَبْعَةٌ وأرْبَعونَ جَماعَةً عِرْقِيَّةً، لكُِلٍّ مِنْها لَهْجَتُها وتَقاليدُها ولِباسُها، مِثْلَ جَماعَةِ الْمَلاكِ، ولاوْ سْوونْغْ، وبْلانْديرْسْ .. وإذا دَعاكَ لاوْسيٌّ إلى مَنْزِلِهِ، يُجْلِسُكَ عَلى مَفْرَشَةِ خَفيفَةٍ، رَطْبَةٍ مُنْخَفِضَةٍ، وتَسْتَقْبِلُكَ زَوْجَتُهُ بِالشَّايِ والْفاكِهَةِ، وهِيَ تَضَعُ وِشاحاً عَلى رَأْسِها، عَلامَةً عَلى أنَّها امْرَأةٌ مُتَزَوِّجَةٌ.

          غَيْرَ أنَّ اللاَّوْسِيِّينَ بُسَطاءُ ضُعَفاءُ، تَقِلُّ في بَلَدِهِمُ الْكَهْرَباءُ، والطُّرُقُ الْمُرَصَّفَةُ، الْمُنَظَّمَةُ بِإشاراتِ الْمُرورِ، ونَوادي الشَّبَكَةِ الْعَنْكَبوتِيَّةِ، وسِواها مِنَ الْمَظاهِرِ الْحَضارِيَّةِ الْحَديثَةِ.

          ولَمّا شَرَعَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ رُوَيْداً رُوَيْداً، سَألْتُهُ:

          - وهَلْ سَتَظَلُّ في هَذِهِ الْغابَةِ وَحْدَكَ؟

          أجابَنِي باسِماً:

          - لَيْسَ بِيَدي حيلَةٌ أوْ وَسيلَةٌ، سَأبْحَثُ عَمّا آكُلُهُ مِنْ أعْشابٍ، ثُمَّ أنامُ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ.

          أطْرَقْتُ أُفَكِّرُ، وأُتَمْتِمُ بَيْني وبَيْنَ نَفْسي، فَنَبَّهَني:

          - إيهِ، أشْرِكْني مَعَكَ، فيمَ تُفَكِّرُ؟

          - اِنْهَضْ حالاً، وتَعالَ مَعي!

          - إلى أيْنَ تُريدُ أنْ تَأْخُذَني؟!

          - سَتَقْضي هَذِهِ اللَّيْلَةَ في حَديقَةِ بَيْتي، وغَداً أُسَلِّمُكَ إلى مُديرِ حَديقَةِ الْحَيَوانِ، فَهُناكَ تَجِدُ الأكْلَ، والرّاحَةَ، والْعِنايَةَ الْفائِقَةَ، وأزورُكَ بَيْنَ الْفَيْنَةِ والأُخْرى.

          بَرَقَتْ عَيْناهُ فَرَحاً:

          - حَسَناً نَفْعَلُ، يا صَديقي!

          ورَفَعَ رَأْسَهُ إلى السَّماءِ داعِياً:

          - اَللَّهُمَّ ارْحَمْ جَدِّي مَحْموداً، الَّذي رَفَضَ أنْ يَمْتَثِلَ لأمْرِ أبْرَهَةَ الأحْمَقِ، فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ، لَما أنْقَذَني هَذَا الطِّفْلُ الْمُؤَدَّبُ الْمُهَذَّبُ!

          وانْحَنى قَليلاً، فَقَفَزْتُ بِخِفَّةٍ فَوْقَ ظَهْرِهِ، فيما كانَتِ الطُّيورُ تَأْوي إلى أوْكارِها، والشَّمْسُ تَخْتَفي وَراءَ الْجِبالِ الشّاهِقَةِ، فاسِحَةً الطَّريقَ لِلْقَمَرِ الْباسِمِ..!

 


 

العربي بنجلون