خُصُومَةٌ وَمُصَالَحَة.. قصة: محمد عزالدين التازي

خُصُومَةٌ وَمُصَالَحَة.. قصة: محمد عزالدين التازي
        

رسم: حلمي التوني

          نَجْوَى الصَّغِيرَةُ هِيَ وَحِيدَةُ أَبَوَيْهَا، وَقَدْ نَشَأَتْ بَيْنَهُمَا فِي وِئَامٍ وَهُمَا يَعْطِفَانِ عَلَيْهَا وَيَرْعَيَانِهَا كَمَا يَرْعَى الْبُسْتَانِيُّ زَهْرَةً طَرِيَّةً الْعُود، يَنْتَظِرُ مِنْهَا أَنْ تَتَفَتَّح، وَأَنْ تُضَوِّعَ مَا حَوْلَهَا بِأَرِيجِ عِطْرِهَا.

          تَعَلَّقَتْ نَجْوَى بِأَبَوَيْهَا، وَأَحَبَّتهُمَا حُبًّا غَمَرَ قَلْبَهَا بِالسَّعَادَةِ وَالفَرَح، فَكَانَتْ لاَ تُطِيقُ فِرَاقَهُمَا، تَنْتَظِرُ عَوْدَتَهُمَا إِلَى الْبِيْتِ مِنْ عَمَلِهِمَا بِفَارِغِ الصَّبْر، فَتُقَبِّلُ وَالِدَتَهَا، وَتُقَبِّلُ وَالِدَهَا، فَتَشْعُرُ بِالدِّفْءِ وَالْحَنَانِ وَهِيَ بِقُرْبِهِمَا. كََانَا شَغُوفَيْنِ بِهَا، يَمْنَحَانِهَا الْعَطْفَ وَالْعِنَايةَ وَالرِّعَايَة، وَيُسْعِدانِهَا بِالْمُلاَعَبَةِ وَتَقْدِيمِ الْهَدَايَا فِي الْمُنَاسَبَاتِ وَالأَعْيَاد، كَمَا كََانَا يُخْرِجَانِهَا مَعَهُمَا فِي أَصْبَاحِ أَيَّامِ الأَحَدِ إِلَى النُّزْهَاتِ فِي الحَدائِق، فَتُسَرُّ بِرُؤْيَةِ الأَشْجَارِ وَالزُّهُورِ وَالْجَدَاوِلِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْمَاء.

          لَكِنَّ نَجْوَى لاَحَظَتْ في عَلاَقَةِ وَالِدَيْهَا أَمْرًا أَقْلَقَهَا، وَهُوَ أَنَّهُمَا لاَ يَتَبَادَلاَنِ الكَلاَمَ مَعَ بَعْضِهِمَا، فَلَمْ تَرَهُمَا يَتَحَدَّثَانِ لِيَحْكِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِكَايَةً لِلآخَر، أَوْ لِيُعَلِّقَ عَلَى شَيْء. وَلَمْ تَرَهُمَا يَضْحَكَانِ مَعَ بَعْضِهِمَا، أَوْ يَتَمَازَحَان، مِمَّا أَدْخَلَ الْهَمَّ إِلَى قَلْبِهَا، وَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَسْأَلَهُمَا عَنْ سَبَبِ ذَلِك.

          مَضَتِ الْأَيَّامُ، وَبَدَأَ وَالِدُ نَجْوَى يُفَضِّلُ أَنْ يُرَافِقَهَا ِفِي أَصْبَاحِ يَوْمِ الْأَحَدِ إِلَى النُّزْهَةِ في الحَدِيقَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ وَالِدَتُهَا مَعَهُمَا، فَكَانَتْ نَجْوَى تَفْرَحُ بِالْخُرُوجِ مَعَ وَالِدِهَا، ولَكِنَّ فَرَحَهَا لاَ يَكْتَمِلُ فِي غِيَابِ وَالِدَتِهَا.

          بَدَأَتْ فِي كُلِّ صَبَاحِ يَوْمِ أَحَدٍ تُلِحُّ عَلَى أَنْ يَتَرَافَقَ وَالِدَاهَا مَعَهَا في الخُرُوجِ إِلَى النُّزْهَةِ فِي الحَدِيقَة، وَلَكِنَّهُمَا مَعًا كَانَا لا يُحِبَّانِ أَنْ يَتَرَافَقَا، فَعَرَفَتْ أَنَّهُمَا لَيْسَا عَلَى وِفَاق.

          حَزِنَتْ نَجْوَى لِذَلِك، وَلَمْ تَجِدْ شَيْئًا تَفْعَلُهُ لِكَيْ تُؤَلِّفَ بَيْنَ قَلْبَيْهِمَا.

          بَعْدَ دُخُولِ نَجْوَى إِلَى غُرْفَتِهَا لِتَنَام، بَدَأَتْ تَسْمَعُ أَصْوَاتًا مُرْتَفِعَةً هِيَ أَصْوَاتُ وَالِدَيْهَا وَهُمَا يَتَخَاصَمَان.

          كَانَتْ تستمع إِلَى مَا يَحْدُثُ بَيْنَهُمَا مِنْ خِصَام، وَتُفَكِّرُ فِيمَا عَلَيْهَا أَنْ تَفْعَلَ لِعَقْدِ الصُّلْحِ بَيْنَهُمَا. يَجْفُوهَا النَّوْم، وَتَشْعُرُ بِأَنَّ سَعَادَتَهَا الأُسَرِيَّةَ تَتَبَدَّد، فَتَحْزَنُ لِذَلِك.

          فَكَّرَتْ نَجْوَى فِي حِيلَةٍ وَهِيَ أَنْ تَتَظَاهَرَ بِالْمَرَض، وَبَدَأَتْ تَصْرُخ:

          آيْ. آيْ. بَطْنِي.

          فَوْرَ سَمَاعِ وَالِدَيْهَا لِصُرَاخِهَا، تَوَقَّفَا عَنِ الشِّجَار، وَهَبَّا مَعًا إِلَى غُرْفَتِهَا، يَسْأَلاَنِهَا مَعًا عَمَّا تَشْعُرُ بِهِ، وَهُمَا جَزِعَان، فَأَخْبَرَتْهُمَا كَاذِبَة:

          أَلَمٌ في بَطْنِي.

          رَأَتِ الأَلَمَ فِي عَيْنَيْ وَالِدَتِهَا، وَقَرَّرَ وَالِدُهَا اسْتِدْعَاءَ طَبِيبٍ بِوَاسِطَةِ الهَاتِف، فَخَشِيَتْ أَنْ يَأْتِيَ الطََِّبيبُ فَيُفْضَحُ كَذِبُهَا. قَالَتْ:

          لَقَدْ زَالَ الْأَلَمُ عن بَطْنِي.

          حَضَنَتْهَا أُمُّهَا، وَقَرَّرَتْ أَنْ تَنَامَ بِجِوَارِهَا، وَبَقِيَ وَالِدُهَا يَسْهَرُ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ أَخَذَ النَّوْمُ يُدَاعِبُ جُفُونَهَا.

          تَكَرَّرَتْ خُصومَةُ أَبَوَيْ نَجْوَى، وَهِيَ تسمع مَا يَدُورُ بَيْنَهُمَا مِنْ خِصَام، وَسَمِعَتْ وَالِدَهَا يَصِفُ أُمَّهَا بِأَنَّهَا بَخِيلَةٌ مُقَتِّرَةٌ تَعْبُدُ الْمَال، كَمَا سَمِعَتْ أُمَّهَا تَصِفُ وَالِدَهَا بِأَنَّهُ مُبَذِرٌ يُفْسِدُ الْمَالَ فِي الكَمَالِيَّاتِ وَلاَ يَدَّخِرُ الدِّرْهَمَ الأَبْيَضَ لِلْيَوْمِ الأَسْوَد.

          تَذَكَّرَتْ نَجْوَى أَنَّ وَالِدَهَا يُغْدِقُ عَلَيْهَا الكَثِيرَ من الهَدَايَا، وَيَشْتَرِي لَهَا مَلاَبِسَ بِكُلِّ الأَلْوَانِ وَالأَشْكَال، تَفُوقُ حَاجَتَهَا لِلِّبَاس، وَأَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْبَيْتِ كُلَّ مَسَاءٍ مُثْقََلَ الْيَدَيْنِ بِأَشْيَاءَ لِزِينَةِ البَيْتِ وَأَطْعِمَةٍ سَمِعَتْ أُمَّهَا تَقُولُ إِنَّهَا تَفِيضُ عَن حَاجَتِهِم، كَمَا كَانَ يُحْضِرُ لَهَا الشُكُلاَطَةَ وَالْفُسْتُقَ وَأَشْيَاءَ أُخْرَى، فَتَرَى أُمَّهَا وَهِيَ تَغْضَبُ وَتَقُولُ لَه:

          - مَازَالَ فِي الْبَيْتِ الشَّيْءُ الْكَثِيرُ مِمَّا أَتَيْتَ بِهِ البَارِحَة، وَأََمْسِ، وَأَوَّلَ أَمْس.

          فَيَرُدُّ عَلَيْهَا:

          - خَيْرُ اللهِ كَثِيرٌ وَالْحَمْدُ لِلَّه.

          تَقُولُ لَهُ أُمُّهَا:

          - الْحَمْدُ لِلَّه. لَكِنَّكَ مُبَذِّر، مُفْسِدٌ للْمَال.

          ويَقُولُ وَالِدُهَا لِأُمِّهَا:

          - وَأَنْتِ مُقَتِّرَة، تحبين الْمَال. أَلاَ يَكْفِيكِ أَنَّكِ، وَمُنْذُ سَنَوَاتٍ بَعِيدَة، تَحْتَفِظِينَ بِرَاتِبِكِ الشَّهْرِيِّ فِي الْبَنْك، وَأَنَا أَدْفَعُ ثَمَنَ بِنْزِينِ سَيَّارَتِكِ وتَأْمِينَهَا وَمَصَارِيفَ إِصْلاَحِهَا؟

          - وَهَلْ تَمَنُّ عَلَيَّ بِذَلِك؟

          - لاَ أَمَنُّ عَلَيْكِ، وَلَكِنْ كَفَاكِ مِنْ حب الْمَال.

          - وَكَفَاكَ أَنْتَ مِنَ التَّبْذِير.

          - هُوَ مَالِي وَأَنَا حُرٌّ فِيه. 

          يَرْتَفِعُ صُيَاحُهُمَا وَالْوَاحِدُ مِنْهُمَا يُعْلِي صَوْتَهُ عَلَى صَوتِ الْآخَر. حَسِبَتْ نَجْوَى أَنَّ الْجِيرَانَ يَسْمَعُونَ صُرَاخَهُمَا. تَأَلَّمَتْ لِذَلِك. أَخَذَتْ هِيَ الْأُخْرَى تَصْرُخ:

          آيْ. آيْ. بَطْنِي.

          تَوَقَّفَ وَالِدَاهَا عَنِ الصُّرَاخِ وَجَاءَا يَهْرَعَانِ لِيَرَيَا مَا بِهَا. وَعِنْدَمَا هَمَّ وَالِدُهَا بِاسْتِدْعَاءِ الطَّبِيبِ أَخْبَرَتْهُ بِأَنَّ الْأَلَمَ قَدْ زَالَ عَنْهَا.

          مَعَ مُرُورِ الْأَيَّامِ زَادَ التَّوَتُّرُ وَالجَفَاءُ بَيْنَ أَبَوَيْ نَجْوَى، فَلاَحَظَتْهُمَا لاَ يَتَبَادَلاَنِ الكَلاَم، وَلاَ يَضْحَكَانِ مَعَ بَعْضِهِمَا، وَلاَ يَخْرُجَانِ مَعَهَا في صَبَاحِ يَوْمِ الأَحَدِ مَعًا، لِلتَّجَوُّلِ في الحَدِيقَة، فَاغْتََمَّ خَاطِرُهَا.

          ذَاتَ لَيْلَة، خَلَدَتْ نَجْوِى إلى فِرَاشِهَا، بَعْدَ أَنْ أَنْجَزَتْ تَمَارِينَهَا الْمَدْرَسِيَّةَ بِمُسَاعَدَةِ وَالِدِهَا، وبَعْدَ أَنْ قَدَّمَتْ لَهَا أُمُّهَا طَعَامَ العَشَاء. قَبْلَ أَنْ يُدَاعِبَ جُفُونَهَا النَّوْم، سَمِعَتْ أُمَّهَا تَقُولُ لِوَالِدِهَا:

          - طَلِّقْنِي.

          وسَمِعَتْ وَالِدَهَا يَقُولُ ِلأُمِّهَا:

          - غَدًا أُطَلِّقُكِ. فِي الْعَاشِرَةِ مِنْ صَبَاحِ الْغَدِ نَلْتَقِي فِي الْمَحْكَمَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِتَنْفِيذِ إِجْرَاءِاتِ الطَّلاَق.

          أَصَابَ الذُّعْرُ نَجْوَى وقَالَتْ لِنَفْسِهَا:

          هل يَفْتَرِقَان؟ أَيْنَ سَأَذْهَبُ أَنَا، مَعَ أًمِّي أَمْ مَعَ أَبِي؟ أَنَا أُحِبُّهُمَا مَعًا، وَلاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَعِيشَ بِدُونِهِمَا مَعًا.

          لَمْ تَنَمْ فِي تِلْكَ اللَّيْْلَة، وَفِي صَبَاحِ الْغَدِ، نَهَضَتْ مِنْ فِرَاشِهَا وَسَارَتْ كَالْعَمْيَاء، تَمُدُّ يَدَيْهَا فِي الْفَرَاغِ لِتَتَلَمَّسَ بِهِمَا طَرِيقَهَا وَمَا حَوَالَيْهَا. بِحَرَكَاتِهَا تِلْكَ لَفَتَتْ نَظَرَ وَالِدَيْهَا، فَهَرَعَا نَحْوَهَا يَسْأَلاَنِهَا عَمَّا بِهَا. أَخْبَرَتْهُمَا بِأَنَّهَا لاَ تَرَى شَيْئًا. صُعِقَا لِمَا قَالَتْ. نَسِيَ أَبَوَاهَا الْمَوْعِدَ الَّذِي ضَرَبَاهُ لِلِّقَاءِ فِي الْمَحْكَمَةِ الشَّرْعِيَّة، وَأَخَذَاهَا إِلَى طَبِيبِ العُيُون، الَّذِي أَكَّدَ أَنَّ عَيْنَيْهَا سَلِيمَتَيْن، وَأَنَّ نَظَرَهَا سَلِيم، لَكِنَّهَا مَعَ ذَلِكَ ظَلَّتْ تُصِرُّ عَلَى التَّظَاهُرِ بِالْعَمَى. اِحْتَارَ وَالِدَاهَا فِي الْأَمْر، وَجَلَسَا يُقَلِّبَانِهِ عَلَى أَوْجُهِه، حَتَّى قَالَ وَالِدُ نَجْوَى لِأُمِّهَا:

          - أَعْتَقِدُ أَنَ خُصُومَاتِنَا هِيَ الَّتِي دَفَعَتْ بِنَجْوَى إِلَى التَّظَاهُرِ بِالْعَمَى.

          رَدَّتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا:

          - أَنَا أَيْضًا أَعْتَقِدُ ذَلِك. وَمَاذَا تَرَى؟ هَلْ نَعْرِضُهَا عَلَى طَبِيبٍ نَفْسَانِيّ؟

          - أَرَى أَنْ نَتَصَالَح، لِنُعِيدَ إِلَيْهَا الإِحْسَاسَ بِالْأَمَان.

          - نَتَصَالَح.

          - خَيْرُ الْأُمُورِ الْوَسَط. سَأَعْتَدِل، لَنْ أَبْقَى مُسْرِفًا.

          - وَأَنَا لَنْ أَبْقَى مُقَتِّرَة.

          - بِذَلِكَ لَنْ نَتَخَاصَمَ أَبَدًا.

          - لَنْ نَتَخَاصَم.

          مَا سَمِعَتْ نَجْوَى مَا دَارَ بَيْنَ أَبَوَيْهَا حَتَّى نَسِيَتْ تَظَاهُرَهَا بِالْعَمَى وَجَاءَتْ تَمْرَحُ أَمَامَهُمَا. ضَحِكَا مَعًا، وَضَحِكَتْ. أَخَذَ وَالِدَا نَجْوَى يَتَحَدَّثَانِ وَيَضْحَكَان، وَيَتَرَافَقَانِ مَعَهَا فِي يَوْمِ الْأَحَدِ لِلذَّهَابِ إِلَى الْحَدِيقَة، وَعَادَتْ حَيَاةُ الْأُسْرَةِ إِلَى مَجْرَاهَا الطَّبِيعِي.

 


 

محمد عزالدين التازي