واحة الفن الجميل.. أحمد واحمان
واحة الفن الجميل.. أحمد واحمان
أريد أن أتعداهم طولاً يا أبي اسمي «بريتا لارسون»، وعندما احتفلت في عام (1906) ببلوغي الثالثة عشرة من عمري، أهداني والدي الرسام السويدي «كارل لارسـون» (Carl Larsson) نسخة من باكورة إنتاجه الفني «منزلنا» الذي صدر في ستوكهولم (عاصمة السويد) على شكل كتاب تضمن 24 صورة بصباغة مائية وبمقاس (32 × 43سم)، ومن ضمن رسوم الكتاب، هذه الصورة التي تذكرني بطفولتي السعيدة التي قضيتها في حضن أسرتي المتماسكة، إنها تذكرني أيضا بفضاء البيت الجميل الذي ترعرعت وتربيت فيه مع إخوتي السبعة... لقد رسمها لي والدي لما كنت في الثانية من عمري تخليداً لمشاهد من المرح والضحك كنت أعيشها معه في طفولتي من يوم لآخر... كنت آنذاك صغيرته المدللة التي لا يرد لها طلباً، كنت أزوره في مرسمه بالمنزل ، وأسأله: - متى سأصبح أطول من أختي «سوزان» (Suzanne) وأخي «أولف» (ulf)؟ وأحيانا أخرى، أناشده قائلة: - أريد أن أتعدى إخوتي الكبار طولا يا أبي. وكان أبي يرد علي، بعد أن يضع ما بيديه ضاحكاً: الآن قبل الغد يا صغيرتي «بريتا»، ستصبحين على الفور عملاقة. وكان يحقق لي هذه الرغبة بحملي عالياً فوق رأسه كما ترون في هذه الصورة، وبمجرد وضعي على رأسه متدلية الرجلين، أشرع في الصراخ والضحك المتواصل الذي يحدث ضوضاء تملأ المنزل ، سيما حينما أتوجه إليه بالرجاء: - إياك أن تدعني أنفلت وأسقط يا أبي... حذار... يكفي، يكفي... أنزلني أرضاً، فقد غدوت أطول منهم جميعا، وقريبة من السقف... ثم يطلب مني أبي بلطف أن أتركه للتفرغ لأعماله بعد أن يفرك شعري الذهبي الناعم ويقبلني على الجبين ويدس في يدي أحياناً قطعة حلوى... وأنتم ترون في الصورة والدي وهو يحمل في يده اليسرى فرشاته للتدليل على انهماكه في الرسم ، وأنا ضاحكة بوجه مشرق طفولي... بذلته التي تمزقت تحت إبطه الأيمن شاهدة على الجهد الذي بذله في حملي فوق رأسه، وشعري المتناثر يؤكد حدة حركة حملي عالياً، وأنتم تلاحظون أيضا الوضع الذي يتخذه والدي للحفاظ على توازن جسمه حتى يتحاشى سقوطي... كانت هذه اللعبة المشاغبة تستهويني، وأدمنت عليها شهورا، ولم أقلع عنها إلا بعد أن بدأت أكبر وأعي أن من واجبي عدم مضايقة أبي أثناء انصرافه لعمله في الرسم. إني أفتخر وأعتز بأبي، هو ووالدتي «كارين بركوو»، التي ساهمت بما وفرت له من سعادة واستقرار وطمأنينة في تألقه ونجوميته وعطائه الفني الغزير ، لقد كان مثابراً صبوراً، تخطى الظروف المادية العصيبة التي اجتازهـا في صباه ، فقد كان جدي سائقا لقارب صيد تقليدي ثم حمالا للأكياس والأمتعة ، بينما اضطرت جدتي إلى غسل ملابس الغير لتعيل أسرتها وتساعد جدي في توفير لقمة عيش أبنائهما، ويعود الفضل إلى معلمه «جاكبسون» (Jacobson) الذي اكتشف ميوله وموهبته في الرسم والذي عمل على إدخاله في سن الثالثة عشرة إلى أكاديمية الفنون الجميلة بستوكهولم، وبالموازاة مع دراساته الأكاديمية عمل في ورشة الإخوة «روزلر» (Roesler) وكرسام في صحيفة "كاسبر" (Kasper)، وشرع في إنجاز أول الرسوم التعبيرية في كتب أدبية من قصص وروايات ومسرحيات، مما جعله يظفر بوظيفة رسام رسمي في «الجريدة الجديدة المصورة»، كما سافر لأول مرة إلى باريس (عاصمة فرنسا) وقضى صيفين في «باربزون» التي تعتبر ملاذا للرسامين في الهواء الطلق، واستقر فيما بعد بمدينة «كريز» (Grez) التي تبعد 70 كيلو متراً عن باريس مع بعض من زملائه الرسامين السويديين، وبهذه المدينة اكتشف تقنية الرسم بالصباغة المائية التي تخصص وبرع فيها، وتم تتويج أعماله بحصوله على ميدالية في معرض باريس عن رسوماته بالصباغة المائية التي أنجزها بـ «كريز»، وبهذه الأعمال الفنية التشكيلية لحياتنا وحياة جيراننا وسكان بلدتنا استطاع والدي أن يحفر اسمه عميقاً في سجل تاريخ السويد الفني، وأذكر أن أبي حصل على الجائزة الأولى لمشروعه الجديد المتمثل في إنجاز لوحة جدارية بالمتحف الوطني بستوكهولم، أما سقوف وأروقة الأوبرا بستوكهولم فلازالت تحمل رسومات تزينها أنجزها والدي بكثير من الإتقان. هذه ذكريات من طفولتي السعيدة، وددت أن أحكيها لكم وأنا على مشارف اليفاعة لأودع الطفولة وأنخرط في إعداد مستقبلي بكثير من الإصرار على التفوق والنجاح والتميز بالجد والمثابرة، وهي دروس تعلمتها من أبي العزيز.
|