الظّبي والظّمأ.. «قصّة مهداة إلى حرف الظّاء الأنيق»
الظّبي والظّمأ.. «قصّة مهداة إلى حرف الظّاء الأنيق»
رسوم: سحر عبدالله فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْقَيْظِ لَمْ تَعْرِفِ الصَّحْرَاءُ مِثْلَهُ، اِشْتَدَّ الظَّمَأُ بِظَبْيٍ فَتِيٍّ. فَانْطَلَقَ بَحْثًا عَنْ عَيْنِ مَاءٍ أَوْ بِرْكَةٍ. كَانَتِ الرِّمَالُ الْحَارِقَةُ تُؤْذِي أَظْلاَفَهُ. فَكَانَ يَقْفِزُ تَفَادِيًا لِلَسَعَاتِهَا. لَمْ يَكُنِ الظَّبْيُ فِي قَطِيعِهِ بَلْ كَانَ يُحِبُّ الْعَيْشَ مُنْفَرِدًا. ولَمَّا أَعْيَاهُ الْبَحْثُ أَوَى إِلَى الظِّلِّ لِيَسْتَرِيحَ. فَلَمَحَ جُحْرَ ضَبٍّ صَغِيرٍ. فَنَادَاهُ: - شَرْبَةَ مَاءٍ يَا صَدِيقِي تَرْوِينِي فِي هَذِهِ الظَّهِيرَةِ الشَّدِيدَةِ. فَسَمِعَ هَاتِفًا مِنْ دَاخِلِ الْجُحْرِ يُكَلِّمُهُ: - يَبْدُو أَنَّكَ ضَلَلْتَ طَرِيقَكَ أَيُّهَا الظَّبْيُ. فَالْمَاءُ فِي الْوِدْيَانِ وَلَيْسَ فِي الْجُحُورِ. - مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الصَّدِيقَ يَضِنُّ بِالْمُسَاعَدَةِ. وَيَأْبَى أَنْ يَكُونَ ظَهِيرًا لِصَدِيقِهِ. - عُذْرًا ، وَلَكِنِّي لاَ أَحْتَفِظُ بِالْمَاءِ حَتَّى أَبْخَلَ بِهِ عَلَى مَنْ يَسْتَسْقِينِي. - فَهَلاَّ خَرَجْتَ إِلَيَّ لِتَدُلَّنِي عَلَى مَكَانِهِ؟ - لاَ أَسْتَطِيعُ، وَلَكِنْ اُرْكُضْ نَاحِيَةَ الشَّرْقِ، تَجِدْ مِنَ النَّبَاتِ غَيْضًا ومِنَ الْمَاءِ فَيْضًا. وإِنْ حَالَفَكَ الْحَظُّ، فَسَتَجِدُ الْمَكَانَ خَالِيًا مِنْ كُلِّ عَدُوٍّ لاَحِمٍ (يعيش على أكل اللحم) فَتَلَطَّفْ ولاَ تُشْعِرَنَّ بِكَ أَحَدًا. إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكَ يَفْتَرِسُوكَ. اِنْطَلَقَ الظَّبْيُ مُسْرِعًا.وظَلَّ كَذَلِكَ حَتَّى بَلَغَ الْمَكَانَ. فَدُهِشَ مِنْ عَظَمِةِ اللَّهِ، الَّذِي أَوْجَدَ جَنَّةً غَنَّاءَ فِي هَذِهِ الصَّحْرَاءِ الْجَرْدَاءِ. لَقَدْ وَجَدَ مَاءً زُلاَلاً يَتَدَفَّقُ مِنْ جَوْفِ الْأَرْضِ. وَلَمَحَ عُشْبًا طَازَجًا يَكْسُوهَا. وأَبْصَر شَجَرًا سَامِقًا يُظَلِّلُهَا. كَانَتِ الْوَاحَةُ مَلاَذًا تَحْتَمِي بِهِ الطُّيُورُ والْحَشَرَاتُ الظَّرِيفَةُ وبَقِيَّةُ الْحَيَوَانَاتِ. اِقْتَرَبَ الظَّبْيُ مِنَ الْمَاءِ فَلَمَحَ عَيْنَيْنِ تَنْظُرَانْ إِلَيْهِ كَأَنَّهُمَا كُرَتَانِ عَائِمَتَانِ. فَتَقَهْقَرَ حَذِرًا.إِنَّهُ التِّمْسَاحُ عَدُوُّهُ اللَّدُودُ. يَتَرَبَّصُ بِكُلِّ وَافِدٍ بَاحِثٍ عَنِ الْمَاءِ. شَعُرَ التِّمْسَاحُ بِانْكِشَافِ أَمَرِهِ فَنَادَاهُ: - عَلَى رِسْلِكَ يَا صَدِيقِي.. نَعَمْ أَنْتَ صَدِيقِي مَادُمْتُ شَبْعَانَ. ولاَ أَشْعُرُ بِرَغْبَةٍ فِي الطَّعَامِ. - مَاذَا تُرِيدُ مِنِّي؟ - سَتَنْزِلُ عَلَى بُحَيْرَتِي ضَيْفًا وسَتَجِدُ مِنَ الْحُظْوَةِ مَا يُنْسِيكَ الْعَدَاءَ والضَّغِينَةَ الَّتِي بَيْنَنَا فَكُلْ واشْرَبْ وتَمَتََّعْ. فَكَمَا يُقَالُ فِي الْمَثَلِ الْعَرَبيِّ الْقَدِيمِ: «أَنْتَ عِنْدِي مَحْفُوظٌ مَحْظُوظٌ ، بِعَيْنِ الْعِنَايَةِ مَلْحُوظٌ». أَيْ سَتَنْعَمُ بِالرَّخَاءِ وَالْأَمَانِ نَعِيمًا. - هَذَا لُطْفٌ مِنْكَ. لِذَا سَآكُلُ أَضْعَافَ مَا اعَتَدْتُ عَلَيْهِ. وسَأَشْرَبُ مَاءَ الْبُحَيْرَةِ كُلَّهُ. تَسَاءَلَ التِّمْسَاحُ: -هَلْ تَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ بِذَلِكَ فِعْلاً؟ أَجَابَ الظَّبْيُ بِفَخْرٍ: - هَذَا أَمْرٌ هَيِّنٌ عَلَى مَنْ كَانَ مِثْلِي فِي قُوَّتِي وفُتُوَّتِي. - ولَكِنَّ الْمَثَلَ يَقُولُ «اِرْبَعْ عَلَى ظَلْعِكَ» أَيْ لاَ تَظْلِمْ نَفْسَكَ فَتُحَمِّلَهَا مَا لاَ تُطِيقُ. - دَعْكَ مِنَ الْأَمْثَالِ والْحِكَمِ. فَهْيَ عَدِيمَةُ الْفَائِدَةِ فِي لَظَى الْحَرِّ. لَمْ يَسْتَمِعْ الظَّبْيُ إِلَى تَحْذِيرِ التَّمْسَاحِ. وشَرَعَ يَلْتَهِمُ الْعُشْبَ اِلْتِهَامًا. وَيَعُبُّ الْمَاءَ عَبًّا وَقَدْ عَزَمَ عَلَى أَلاَّ يَتْرُكَ قَطْرَةً وَاحِدَةً مِنْهُ. وَمَا هِيَ إِلاَّ لَحَظَاتٍ حَتَّى اِنْتَفَخَتْ بَطْنُهُ وكَادَتْ تَلْتَصِقُ بِاْلأَرْضِ. وَفِي النِّهَايَةِ شَعُرَ بِتُخْمَةٍ وَاخْتِنَاقٍ. وَانْهَارَتْ قُوَّتُهُ. يَا لَلْعَجَبِ ، فَمُنْذُ قَلِيلٍ كَادَ يَمُوتُ مِنَ الظَّمَأ واْلآنَ يَكَادُ يَمُوتُ مِنَ الرَّوَاءِ. مَضَى زَمَنٌ غَرُبَتْ فِيهِ الشَّمْسُ مُعْلِنَةً حُلُولَ الظَّلاَمِ. وَكَانَ الظَّبْيُ مُنْشَغِلاً بِثِقَلِ وَزْنِهِ الَّذِي زَادَ فَجْأَةً وأَقْعَدَهُ عَنِ الْحَرَكَةِ. وتَسَلَّلَ النُّعَاسُ إِلَى جَفْنَيْهِ الْمُثْقَلَيْنِ. فَلَمْ يَنْتَبِهْ إِلاَّ عَلَى صَوْتِ التِّمْسَاحِ عِنْدَ رَأْسِهِ. وَهْو يَقُولُ لَهُ: - مَرْحَبًا بِفَرِيسَتِي السَّمِينَةِ. إِنِّي مَا رَأَيْتُ مِثْلَكَ فِي سِمَنِهِ وطِيبِ لَحْمِهِ مُنْذُ سِنِينَ. ومَا عَمَّرَ الْوَاحَةَ غَيْرُ ظِرْبَان هَزِيلٍ كَرِيهِ الرَّائِحَةِ أَوْ عَظَاءَةٍ عَجْفَاءَ. لاَ تُسْمِنُ ولاَ تُغْنِي مِنْ جُوعٍ. فَرَدَّ الظَّبْيُ مُغْتَاظًا: - مَاذَا تَقُولُ؟ فَرِيسَتَكَ؟ أَلَمْ تُنَادِنِي مُنْذُ قَلِيلٍ يَا صَدِيقِي. وادَّعَيْتَ شَبَعًا وزُهْدًا فِي أَكْلِي؟ فَأَجَابَهُ مُبْتَسِمًا وقَدْ لَمَعَتْ أَنْيَابُهُ: - لَقَدْ قُلْتُ مَا قُلْتُ سَاعَةَََ شَبَعِي. فَلِمَ انْتَظَرْتَ حَتَّى حَانَتْ سَاعَةُ جُوعِي؟. فَأَنَا كَمَا تَرَى تِمْسَاحٌ مُسِنٌّ لاَ يَقْوَى عَلَى الْحَرَكَةِ فِي كُلِّ الظُّرُوفِ.لِذَلِكَ اِحْتَلْتُ عَلَيْكَ. وقَدْ اِسْتَفَدْتُ مِنْ غُرُورِكَ لأُُِوقِعَ بِكَ. حَاوَلَ الظَّبْيُ الْفِرَارَ. فَلَمْ يَسْتَطِعْ. فَقَدْ كَانَتْ بَطْنُهُ مُثْقَلَةً بِالْمَاءِ. فَقَالَ مُسْتَصْرِخًا: - الرَّحْمَةَ أَرْجُوكَ. فَأَجَابَهُ التِّمْسَاحُ بِغِلْظَةٍ: - لَقَدْ وَقَعْتَ فِي الْمحْظُورِ. وقَدْ اِنْتَهَى اْلأَمْرُ. فَقَالَ الظَّبْيُ مُتَحَسِّرًا: - كاَنَ عَلَيَّ أَنْ أَحْفََظَ ثَلاَثَ حِكَمٍ: اْلأُولَى أَنَّ التِّمْسَاحَ فَظٌّ لاَ يُصَادِقُ عَاشِبًا (من يكثر من أكل العشب) وَدِيعًا، وإِنْ تَرَعْرَعَا فِي حَظِيرَةٍ وَاحِدَةٍ. والثَّانِيَةَ أَنَّ سِعَةَ بَطْنِي لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُسَاوِي سِعَةَ النَّهْرِ. والثَّالِثَةَ أَنَّ اْلإِسْرَافَ فِي اْلأَكْلِ والشُّرْبِ عَاقِبَتُهُ وَخِيمَةٌ وَقَدْ نَهَانَا عَنْهُ رَبُّنَا عَزَّ وجَلَّ.
|