في صباحاتنا اليوميّة المناقيش

في صباحاتنا اليوميّة المناقيش

(مناقيش جمع منقوشة وهي رغيف يُدهن بدامة ويُخبز بالفرن او على الصاج).

في السوق القديم, حيث أسكن في مدينتي, وسط حيّ شعبي، أستيقظ غداة كل صباح على رائحة القهوة تنبعث من مطبخنا الصغير- قهوة تركيّة يغليها والدي في ركوته النحاسيّة الصغيرة. وبعد دقائق تختلط الروائح المتصاعدة من كل حدب وصوب متسارعة في توليفة زكيّة إلى أنفي لتوقظني, وترغبني في الطعام, فأقفز من سريري مرحّبةً بالصباح الجديد, وبأطايب سوقنا.

على كثرة هذه المأكولات صرت أضع روزنامة لأُجدْول أيامي بما سآكل في كل صبح.

البارحة, يوم عطلتي المدرسيّة، كانت ترويقتي «فول مدمّس» و«بليلة» (حمص مسلوق ومتبّل بالزيت والحامض والثوم) مع الخضار الشهيّة... أمّا اليوم فموعدي سيكون مع المنقوشة.

اغتسلت وقمت بواجباتي وأسرعت إلى أمي ملقيةً عليها السلام.. تفهم مُبتغاي قبل أن أتابع:

- تريدين أن تنزلي إلى السوق قبل الذهاب إلى المدرسة أليس كذلك؟... حسناً هيّا بنا كي لا تتأخّري.

حملت محفظة كتبي على ظهري وتأبّطت محفظة نقودي الصغيرة لأدفع من «خرجيّتي» (الخرجيّة: ما يدّخره الولد من مال) ثمن المنقوشة.

نزلنا أدراج بنايتنا الهرمة وسرنا في الزّاروب الضّيّقة مارّين بمحاذاة (بلصق أو جنب) مطعم الفول حيث أكلنا البارحة, كما تجاوزنا فرن الكعك العربي فأسررت (همست) لأمي أن يوم غد سيكون «يوم الكعك»؛ ما أشهاها هذه الكعكة المدوّرة المرشوشة بالسمسم وفي جوفها سمّاق - بطعمه الحامض المسيل للّعاب -, وصعتر بلدي والذي يُقال عنه إنه يفتح الذهن وينمّي الذكاء - .... نعم لأجل كل ذلك لن أوفّرك غداً, إن شاء الله، يا كعكة!

حثثت الخطى (أسرعت) بعد أن سبقتني أمي بضع خطوات لنتجمّع مع حشد من المنتظرين يتزاحمون أمام فرن المناقيش. الكلّ على عجلة من أمره, كباراً وصغاراً، يتحضّرون للذهاب إلى المدرسة أو العمل.

هنا صاج (صينية من حديد محدّبة) مُدّت عليه أرغفة صغيرة وسميكة دُهنت بالزيت والصعتر, وأخرى بالفليفلة الحمراء المتبّلة مع الكشك (الكشك هو من الصناعات البلدية التراثية مكوّن من البرغل واللبن يُجفّف في الشمس ويُطحن) وفي الداخل فرن يعمل على الغاز أُدخلت إليه الأرغفة لتُشوى بناره: «لحمة بعجين», جبنة, جبنة مع صعتر وفطائر بالسبانخ وأخرى بالأعشاب البرية النافعة.

أمطُّ (أمد وأطيل) رقبتي الصغيرة كي أرى أكثر.. لكن دوري لن يأتي بعد، ما جعلني أتبرّم (أضجر) وأبحث عما يرضي حشريّتي, فألقيت نظرة على المكان المقابل للفرن، كُتب على واجهة المحل «كنافة بالجبن يومياّ» ما ألذّها! مأكول حلو يكسر روتين المالح من أطعمتنا الصباحيّة, بالطبع هي على جدول مشاريعي الغذائيّة!

ربما تقولون إنّي شرهة... لكنّي أعلم أن عند كلّ منكم أصدقائي سلوكًا وتقليدًا غذائيًا, وأطعمة تراثيّة متناقلة صناعةً وأكلاً من الجد إلى الحفيد.. هذه أطعمة بلدي الّتي اعتدت عليها صباحاً.

- تفضّلي هذه منقوشتكِ!

- تناولتها بلهفة وأكملت طريقي إلى مدرستي القريبة وشريط ذكرياتي يرافق دربي فيمنحني الكثير من الفرح والسلام!

 


 

سمية عزام