أغنيات «زهر الهوا» (هدية العدد)

أغنيات «زهر الهوا» (هدية العدد)

رسوم: ماجد هنانو

الاسم العلمي لهذا النبات «أسباراغوس Asparagus»، وهو نوعان:

أولهما: «الهليون»، الذي حمله العرب إلى الأندلس ومنها عم أوربا، تؤكل غصَيناتُه، عساليجه الغضّة، في زمن الربيع مستلذّة، ويسمّى أيضًا «الأسْفَراج».

والنوع الآخر يُتَّخذ للزينة، له غُصَيْناتٌ رفيعة تُعرّش أو تتدلّى، مدروزةً بالورق الدقيق الإبَريّ الشكل، وتتفتّح فيه بآخر الموسم عناقيدُ صغيرة ذات حُبَيباتٍ قرمزيّة اللون تحوي بِزرًا.

تُجمّل الحدائقُ في بلاد الشام بـ«زهر الهوا» معرّشًا ومتدلّيًا.

وجاءت التسمية من رقّة ورقه، أو من أنه يتحرّك مع أنسام الهواء، فينوس ويدور وهو معلّق في أصيص، وبعض أهل الشام يطلقون عليه تحبُّبًا «شوارب الملك»، وفي مصر «دشَك ألماظ»!

ذات مرّة، تكاثر «زهر الهوا» في حوض، فضاق بذلك ذرعًا، الكاتبُ هنا كتب من هذه الحالة «فانتازيا» جمعت بين الشجر والبشر، وولَّدت تمرُّدًا من نوع ما.. فكانت هذه القصة!

يوم دخل الزوجان، «محسن» و«محسنة»، حديقةَ البيتِ الذي قدّر لهما أن يقتنياه في آخرِ العمرِ، سرَّهما أنْ رأيا عناقيد العنبِ تتدلّى من الداليةِ العاليةِ، وأنّ الشجرات الثلاث الشقيقات، «الليمونة» و«النارِنْجَة» و«الكبّادة»، قد نَمَت مؤْذِنةً بأن تتحوَّل عمّا قريب إلى صُفرٍ يَشِعّ لونُها بين ورق الشجر مثل الثُّريّات المضيئة، ولكنّ الزوجة، المتقاعدةَ حديثًا من عملِها في تدريسِ «علم النباتِ»، عبّرت عن خيبتِها لافتقاد الزهر في أحواضِ هذه الحديقةِ الواسعةِ، فما كان من زوجِها، الذي يتعاطى الأدبَ قراءةً وتأليفًا، إلا أن أشار إلى «ياسمينةٍ» مخيّمة هناك توشّي هامَتها الأزاهيرُ البيض، فغمغمت الزوجة:

- ومع ذلك، فإنّ الأحواض، تبدو «قاحلةً!».

دخل الزوجان البيتَ، ترافقهما المساعدةُ الصبيةُ «حُسنيّة»، وأثاث البيت، بعضٌ سبقَ وبعضٌ لحقَ، ثم إن «الشُّغّيلة» تواردوا، وجرى العمل على قدمٍ وساقٍ، في التنظيفِ والتركيبِ والترتيبِ. و«الدكتورة محسنة» لم يُفارقها هاجسُها في أنّ عليها أن تفعل كثيرًا لتلافي ما فَرَّط الساكنون الراحلون من أمر الحديقة، هذه التي تريد أن تجعلها غَنّاءَ بحق، فيرتاح لها أولادُها ويترعُ الأحفادُ حين يأتون من مغترباتِهم في الصيفِ الآتي، والأديب الألمعي «الأستاذ محسن»، الذي يُنادى تحبُّبًا «أبا المحاسن»، يقول هادئًا هانئًا:

- بإمكانك يا ربّة البيت، أن تجعلي من حديقةِ البيتِ «حقل تجاربٍ» للمعلوماتِ النباتيةِ التي لبثتِ طوال ثلاثين عامًا تُلقينها على طلبةِ الجامعةِ. افلحي، اقلعي، ازرعي، يا «أم المحاسن»، وأنا لا أخالفك في شيءٍ، وساعة تحتاجين للمساعدةِ تجدينني رهن إشارتك. فقط أعدّي لطاولةِ الكتابةِ، التي سأتّخذها في الحديقةِ طوال الصيفِ، مكانًا قريبًا من البِركة، محاطِا بالزهرِ. أرجوك!

كان الحديثُ بين الزوجين، عالمة البنات والأديب، يجري هكذا، على مشهدٍ من الصبيّة حسنيّة. ولكن كانت تسمعه، أيضاً، تلك «الغُصَيْناتُ» الرفيعةُ مثل خيوط، المدروزةُ بالورقِ الناعمِ الإبَريّ الشكل، والمتماديةُ في النُّموِّ حتى لتتدلّى بما يُشبه «الشَّعْرَ» إلى خارجِ الحوضِ الحجريّ فتمسّ الأرضَ، متعرَّضةً لأن تُداس، وليس هنا مَن يأبه لهذا الشعر الأخضر المسترسل، فيحنو، وينحني ليرفعه إلى حيث يجب!

تَسمع الغُصينات هذا الحديث، يختلطُ فيه الجدُّ بالهزلِ والدُّعابةِ، فيعرفنَ أنّ ربّة البيتِ الجديدةِ «أستاذةٌ في علم النباتِ»، فيتساءلن - وأمُّهنَ فوق رءوسهنّ - عمّا إذا كان هناك أملٌ في الخلاصِ من المهانةِ، وحلٌّ للكثافةِ في هذا الحوضِ الحجريِّ الذي تنكتم فيه الأنفاسُ!

لم يمرَّ يومٌ علىالبناتِ يكنّ فيه هادئات. واليوم، وقد دخل البيتَ سكانٌ جدد، وجرى حديثٌ فيه إشارةٌ إلى «علم النباتِ»، تحرّكت فيهنّ الأشواقُ للتغيير، أشواقٌ ضجّت في النفوسِ، فهي الآن تتحوَّل إلى هِياج:

- نريد أن نتحرَّر من حوضِنا، من سجننا، الذي وصلنا فيه إلى حدِّ الاختناقِ!

وماذا تُراها تفعل أمُّهنّ؟ إنّ تعاطفها مع بناتِها لا يُضاهيه إلا عجزُها عن أن تفعل من أجلهنّ شيئًا، أيّ شيء. ثم وجدت نفسها، أملاً في إلهائهنّ، تُردِّد الأُغنية التي عوَّدتهنّ على سماعها حتى.. الضجرِ:

«زهرُ الهوا» ما أجملَهْ

يحتلُّ «أعلى» منزلَهْ

هذه المرّة تجرّأت إحدى البناتِ على التعبيرِ عن تذمُّرها:

- أُمّاه! شُعُورُنا الجميلة تنزل إلى الأرضِ وبالأقدامِ تُداس! نحن.. نحن.. «أدنى» منزلَهْ!

تصدّت لها الأمُّ مقرِّعةً:

- يعني تريدين أن أستبدل كلمتَك النابيةِ بالكلمةِ التي جرينا على غنائِها، يا «ستّ الكُلّ»: «الأدنى» «بالأعلَى»؟ ثمّ.. ثمّ أُحذِّرك من أن تكلّمي أمّك بهذه الطريقةِ الفظَّةِ! إنْ كنتنّ راغباتٍ في «التغييرِ» حقًا، فهيّا ارفعنَ أصواتكنّ لعلها تصل إلى أسماعِ هذين اللذين يُسَمَّيان «أمّ المحاسن» و«أبا المحاسن»، ومعهما.. حسنيّة!

وخيَّم على الحوضِ صمتٌ، ذلك أنّ البنات كنّ في يقينٍ من عجزهنّ عن تحقيق أيّ شيء.. وهنّ إذا كنّ يملكنَ المقدرة على أن تتلقّط أسماعُهنّ كلام البشرِ ويَعينَه جيدًا، فإنّ «هؤلاء» لا يسمعونهنّ، وحتى إنْ سمعوا لا تظنّ واحدةٌ منهنّ أنهم يأبهون!

بعد أن فرغت ربّةُ البيتِ من ترتيبِ البيتِ، تفرَّغت للعملِ في الحديقةِ.

عاينت الشجرَ والحجرَ والتربةَ. ثم عمدت إلى استقدامِ شَغِّيل يقوم بنكشِ الترابِ اللابدِ في الأحواضِ، مقسّمًا الأحواضَ إلى «مساكب»، وبعدئذ أتى بشُتُولٍ مختلفاتِ الأشكالِ والألوانِ، زارعًا، غارسًا، متعجِّلاً في ذلك قبل أن يوغل الصيف وينقضي!

كانت بناتُ «زهر الهوا» يَرَيْنَ ما تأمر به السيدةُ وما يُنفِّذه الشغّيل، مُطلاتٍ من حوضهنّ المرتفعِ عن الأرضِ درجاتٍِ، ولحظة يمرّ بهنّ الرجلُ جيئةً وذهابًا، كنّ ينادينَه:

- عَمو! عَمّو! نظرة إلى هنا، نحن نختنق!

ولكن.. هل يسمع البشرُ نداء الشجرِ!

حاولت الأمُّ في حوضِها أن تُسرّي كعادتها عن بناتِها، فأخذت بالغناءِ:

«زهرُ الهوا» ما أجملَهْ

يحتلُّ أعلى منزلَهْ

شُعُورُُهُ مسترسلَهْ

المتذمّرة، التي أطلقت عليها أمُّها سخريةً «ستّ الكُلِّ»، لم تحتجّ هذه المرّة، بل - بلطفٍ ماكر - استأذنت:

- هل تسمحين، أمّاه، بأن أضيف شيئًا إلى هذه الأغنية «المجيدة»؟

سخرت الأمّ:

- إذا كان عندك قولٌ جديدٌ، فانطقيه!

فأخذت المتذمّرة تُغنّي:

شُعُورُهُ مسترسلََهْ

يُخشى عليها..

يُخشى عليها الـ..

يُخشى عليها «البَهْدَلَهْ»

وإذا البنات يُطلقنَ الضحكات، القهقهاتِ الضاجّة، الممزوجة بالوجعِ، وبعضهنّ قلنَ:

- فعلاً.. نحن نعيش البهدله!

وأُسقِط في يد الأمّ، فلم تعد تستطيع متابعةَ الغناءِ ولا نطق الكلام.ِ

في أثناءِ هذا الهرْجِ والمرْجِ، مرّت حسنيّة، وفي يديها ما تحمل. توقّفت، متلفّتةً يمنةً ويسرةً، وكأنها تريد أن تتأكد من سماعِها أصواتًا! لاحظت البنات ذلك، فغرقنَ في الصمتِ دفعةً واحدةً.

ولكن المتذمرةَ رفعت صوتَها، مناديةً:

- حسنيّة! حسنيّة! هل تسمعيننا، أيتها الصبيّة الجميلة؟

الذي وقع أنّ الصبيّة ولّت هاربةً.. لترتمي، هناك، أمام سيدتها:

- ماما! سمعتُ هناك صوتًا يُشبه الكلام.. هل الحديقةُ «مسكونة»؟!

قرّعتها أستاذةُ العلوم:

- وأنت ممّن يؤمنون بظهور «العفاريت» على الأرضِ، يا بنت!

ورافقتْها.

- هنا، يا ستّي.. من هنا طلع الصوت.

انحنت السيدةُ على الحوضِ، قرّبت وجهَها، أَحنت رأسَها، أرهفت سمعها.

البناتُ، في حوضهنّ، تملَّكهنّ الخوفُ من «أمّ المحاسن»، الدكتورة محسنة، التي ما فتئت، منذ وطئت قدمُها أرض الحديقةِ، تُصدر الأوامرَ.

ولكنّ المتذمّرة، وجدتُها فرصةً سانحةً، جعلت تخاطب السيدة دون استئذان من أمّها:

- يا ربّة البيتِ الجميلِ، يا سيّدة الدارِ العامرةِ، أنت امرأةٌ عالمةٌ تعرفين أحوالَ النباتِ، الكثافة قتلتْنا، نطالبُ بالحريّةِ، حرية المكانِ والهواءِ!

تشجّعت بنتٌ أخرى:

- نحن اسمُنا «زهر الهوا» ولا نشمّ الهوا!

قالت ثالثةٌ:

- شعورنا مرميةٌ على الأرضِ، تُداس بالأقدامِ وتُضرب بالمكانسِ!

عادت ستُّ الكلِّ تقول بنبرةٍ أعلى:

- نَقِّلينا، يا سيدتنا الفاضلة، فرِّدينا، شرِّدينا، حرِّرينا، ليس باسم «العدالة الإنسانية» التي تتغَنَّون بها، بل باسم «العدالةِ النباتيةِ» التي لا تجهلينها، أيتها العالمة الحكيمة!

لم تستوضح السيدةُ مساعدَتها عمّا إذا كانت قد سمعت أو فهمت، لكنها توجّهت إلى زوجِها، الجالس هناك بجوارِ البِركة، سعيدًا، يكتب.

أمّا الأمّ، في حوضِها، فقد كفّت عن أن توجّه إلى «ستّ الكلّ» لومًا، بعد أن استمعت إلى ما صدر عنها من كلامٍ جميلٍ تعجزُ هي عن قولِ مثله، ورأت العدوى تسري بين البناتِ، حتى غدت كلّ واحدةٍ منهنّ «ستّ كلٍّ» أخرى!

عادت السيدةُ، يرافقها زوجُها وفي يده أداةٌ، رأتها البناتُ لامعةً وقاطعةً أيضًا، فأجفلنَ، مرتعبةٌ من بينهنّ عَبَّرتْ:

- رُحْنا!

وأخرى استغاثت:

- أمّاه، أنقذينا!

أما المتذمّرة، فقد ارتفعَ صوتُها:

- جَسَدي بين أيديكما، أيها السيدان، فخُذاه!

دسّ أبو المحاسن الأداةَ - التي لم تكن إلاّ «مجحافًا» - بين هذه البنت المتكلّمة والجدار الذي تستند إليه، فَصَلَ الظهر. وجَّهتُه عالمةُ النبات - أو هي لم توجِّهه - فحَزَّ في الترابِ يَمنةً ويسرةً ومن قدّام، ثم دفع المجحاف في العمقِ، الجذورِ، الجَذاميرُ الدقيقة الشُّروش، تقطّعت، هُتِكت، كَتَمت البنتُ وجعَها، لم ترتفع منها أنّّة واحدة، تمكَّن، قبض، شدّ، فكَّك الغُصينات من تشابِكها، ثم نزل إلى الشُّعورِ على الأرضِ يستخلصها، والعَرَق سَحَّ من جبينه ومن جبينِ البنتِ الشجاعةِ، معًا.

أمّ المحاسن أمرت:

- هاتي من هناك، شَقْفًا، أَصِيصًا، يا حسنيّة.

بقفرة أتت الصبيّة بأصيص بدا مصنوعًا من البلاستيك، رشقتُه السيدة بنظرةٍ، وعادت تأمر:

- ردّيه، وهاتي «مَكْرَمة» ذات «شيّالات»!

وُضعت المكرمةُ، المرصَّعة، بين الأيدي، أُودِعت فيها كتلةُ الجذامير. أُهيل ترابٌ، وأُغدِق ماء. حَمَل أبو المحاسنِ المكرمةِ، وفوقَ البِركة علَّقها بحبلٍ رفيعٍ يحاكي الغُصَينات رقّةً. وأخذ يُحرّكها، فتَنُوس، ثم تعود تستردّ دورتها.

بدت أمّ المحاسن كمن يُحدِّث نفسه:

- كيف سهوتُ عن حوض «زهر الهوا»!

ثمّ إنّ الأمّ في حوضِها، أخذت تستقبل في كلّ يوم «عملية استئصال»، استقلال، لهذه البنت أو تلك، لتوضع في أصيصٍ، أو مكرمةٍ، وتُعلّق فوق البركة، أو تتدلّى من غصنٍ متينٍ في شجرةٍ عتيقةٍ.

والبنات، اللواتي غمرهنّ الفرحُ أولاً، أحسسنَ فيما بعد بالحزن لذهاب الشقيقة الكبرى، التي عرفنَ الآن أنَّ تذمُّرها كان يبعث فيهنَّ الحيوية ويُبدِّد الضجر، ومع ذلك فقد أخذت تتصاعدُ منهنّ المطالبة:

- وأنا؟ وأنا متى يأتي دوري؟

والأمّ تُصبِّرهنّ بأنّ الدور آتٍ، وأنّ الباقيات منهنّ في الحوضِ سوف يَنْعَمْنَ بالراحةِ ويتمتَّعنَ بالرفاهيّة.

أَوغَل الصيف.

جاء الأبناءُ والأحفادُ من كلّ فجّ، من الخليجِ حتى أمريكا.

جاءت البنتُ الكبرى «حسناء» من العالمِ الجديدِ، وجاء قبلها وبعدها «حسن» و«حسين» و«حسّان».

راقَ للجميعِ أنّ البيت تغيّر. حديقةٌ وأعنابٌ وأثمارٌ وأزهار. وللصغارِ مساحاتٌ للعب والجَرْي، وللكبارِ أُصُصٌ ومَكْرَماتٌ رأوها تعلو البِركةَ، تُضيءُ بالأزهارِ الملوّنةِ، وتنسدل من جوانِبها غُصَيناتٌ خُضْرٌ ذات ورقٍ ناعمٍ، سمّوها لهم «زهر الهوا»، رأوها تدورُ مع الهواءِ، تَنُوس، فإنْ سكن الهواء فهناك ما ترسله مِرْوَحةٌ مخبّأة - مثلُ كاميرا خفية - تتولّى التحريكِ والنَّوَسان.

وجاء الأصدقاءُ، من علماءٍ وشعراءٍ، استمتعوا، سُويعاتِ المساء، بالأضواءِ الخافتةِ، وبتلك الملتفّة حبالاً من نورٍ حول جذوعِ الشجرِ، فأَشبهتْ أفاعيَ ناعمةً برّاقة. ومع الهواءِ والأضواءِ، استمعوا إلى الموسيقى الحالمة، تنبعث من مكانٍ خفيّ أيضًا.

أهل العلم قالوا:

- ما كنّا نعلم أنّ أغصان الـ«أسباراغوس» تتمتّع بهذه الجاذبيّة كلّها!

وشاعرٌ، اعتاد إرسال شِعْرَه بالعاميّة «زَجَلاً»، تفتَّق ذهنُه عن أنّ هذه الحديقةِ لا ينقصها إلاّ... «الدِّرْبَكّة»! وزاد في إضحاكهم:

- وعندئذٍ يُغري دورانُ الشُّقُوف برَقْص «الدَّبْكة»!

وانتحى جانبًا، يدمدم، ثمّ عاد ليُنشِد:

يا اللهْ نْروح ع البركهْ

منها غنا ودربكّهْ

حبالْ وشْقُوفْ عم تْدُور

و«زْهورْ الهوا» متْحَرْكهْ

بدّها دَبِّيكهْ ودَبْكهْ

توزَّعت «زهور الهوا» في أرجاءِ الحديقةِ.. هل نقول إنّ المتذمِّرة، «ستّ الكلِّ»، بدت «الستّ، بين شقيقاتها «الهوائيّات»، و«الستْ» أيضًا على كلّ ما عُلِّق من الشُّقُوف والأُصُص والمَكْرَمات النفيسة، أو ما ظلّت تحتضنه الأحواضُ الأرضيّة من ياسمين، وورد جوري، و«تمّ سمكة»، و«حُسْن يوسف»؟

والأمُّ، في حوضِها الحجريّ، تشهدُ.

وإنها لتستمع، يومًا، إلى أبي المحاسنِ، يخاطب ابنتَها المتوّجةَ فوق البركةِ، فيُنشِدها شعرًا فصيحًا:

«زهرَ الهوا» ما أجملَكْ

مِن صِغْر سِنّي اْرتحتُ لَكْ

ما أجملَكْ! أنتَ مَلِكْ

كلُّ الزهورِ تَدينُ لَكْ

ما أجملَكْ! ما أجملَكْ!

فأيقنتْ أنّ الرجل قد سمع غناءها، واستوعب وحفظ. وهو، في أبياته المنظومة هذه، «يُعارِض» شِعْريًا أغنيتَها، مُبَدِّلا بضمير الغائب ضميرَ المخاطَب «ما أجملَكْ»، ممّا يكشف عن إعجابٍ واعتزازٍ!

وتقول بصوتٍ قد نال منه التأثُّرُ حتى لا يكاد يَبِين:

- آمنتُ بأنّ الصوت إذا ارتفعَ أَسْمَع.

فتسألها البنات، الملازماتُ لها في الحوض:

- ماما، ماذا تقولين؟ لم نفهم!

وما كان الجواب إلا دمعًا في العين لَمَحْنهُ، وندّى في الغُصينات لَحَظْنَه.

 


 

قصة: فاضل السباعي





غلاف هدية العربي الصغير