«مشمشة» و «لوسي»

«مشمشة» و «لوسي»
        

رسوم: محسن أبو العزم

          في إحدى المزارعِ التي توجد على مشارفِ المدينةِ، كانت تعيشُ قطةٌ جميلةٌ تُدعى «مشمشة».. تتمتعُ بجسدٍ قوي.. لم تشْك مطلقاً من أي مرضٍ.. على الرُغمِ من أنها تعيشُ في الخلاءِ، حيث لا سقفَ بالمزرعةِ يحميها من البردِ، وقد كانت بارعةً في صيدِ الفئرانِ، وكان صاحبُ المزرعةِ يعطفُ عليها ويحبّها.

          ذاتَ يومٍ، وبينما هي تلعبُ وتقفزُ أمامَ باب المزرعةِ، وقفتْ في الناحيةِ الأخرى من الطريقِ سيارةٌ كبيرةٌ، ونزلت منها فتاةٌ في مقتبلِ العمرِ، وفي يدِها قطةٌ بيضاء اللونِ من النوعِ السيامي، فأسرعت «مشمشةُ» لتعبرَ الطريقَ، وترى عن قربٍ ما هي حكاية هذه القطةِ، واقتربت أكثر، فعلمت أن القطةَ مريضةٌ، لأنها رأت الشحوبَ يكسو ملامحها، وأن الفتاةَ جاءت بها إلى المستشفى ليفحصَها الطبيبُ، وازداد فضولُ «مشمشة» حتى أنها قررت أن تدخلَ وهي تتسلل خلفهما في هدوءٍ:  تُرى مم تشكو هذه القطةُ اللطيفةُ؟ وكيف تمرض وهي تعيشُ وسطَ أسرة ثرية؟! وتنعمُ بدفءٍ، لا أنعم به، وتشربُ اللبنَ ليلاً ونهاراً، وتأكلُ الوجباتِ الشهيةَ، آه على تلك الأيامِ، لو أنني في مكانِها الآن لعشت حياةً سعيدةً، ألعبُ وألهو مع تلكَ الفتاةِ، وأتناول غذاء جيداً، بدلاً من الفئرانِ التي أتعبت معدتي، وأتنزّه وأرى الحياةَ الرحبةَ في تلك المدينةِ الكبيرةِ.

          وبعد لحظاتٍ، سمعتْ صوتَ الطبيبِ وهو يقول للفتاةِ: «لوسي» تحتاجُ لرعايةٍ واهتمامٍ أكثر، ومرضها هذا يستدعي بقاءَها هنا في المستشفى لمدةِ أسبوعٍ، لأنها تعاني من نزلةِ بردٍ قاسيةٍ، هنا تنهّدت الفتاةُ مستسلمةً لرأي الطبيبِ، وقبل أن تهمَّ بالخروجِ، سبقتها «مشمشة» وهي تخاطبُ نفسَها قائلةً:

          «كم أحسد «لوسي» على حياتِها، هاهي ستعود للفتاةِ بعد أسبوع، أسبوع راحة في المستشفى، أسبوع تعودُ إليها صحتهُا، أسبوع، آه، آسبوع».

          هنا جالت بذهنِ «مشمشة» فكرةٌ، وقررت عدم عبور الطريقِ، وعدم العودةِ للمزرعةِ، وقبل أن تصلَ الفتاةُ إلى السيارةِ، كانت «مشمشة» قد قفزت فوقَ السيارةِ من الخلفِ، وجلست منتظرةً وهي تحاولُ أن تخفي نفسَها من الفتاةِ، ثم جاءت الفتاةُ، وأدارت السيارةَ تُمنّي نفسَها قائلةً: «سوف أعرض على الفتاةِ أن أعيش معها لمدةِ أسبوع، وما إن تخرج «لوسي» سأعود للمزرعةِ، وقد تحبّني تلك الفتاة وتتمسك ببقائي معها، آه.. لو حدث هذا!

          سأكون أسعدَ القططِ».

          وما إن وقفت السيارةُ، حتى قفزت «مشمشة» ونزلت، ثم تسللت خلفَ الفتاةِ، وصعدت الفتاةُ عبرَ السلمِ، حتى وصلت لبابِ «الشقةِ» التي تعيشُ فيها، ثم فتحت البابَ ودخلت، فدخلت خلفَها «مشمشة» دون أن تراها، وما إن استراحت قليلاً على أحدِ الكراسي، حتى فاجأتها «مشمشة» بعينيها الجميلتينِ، اللتين انبعث منهما بريقُ التوسّلِ، واقتربت «مشمشة» من الفتاةِ، ثم صعدت لتجلسَ على رجليها، فنظرت الفتاةُ في دهشةٍ، وقالت لها «من أين أتيت؟» فأومأت «مشمشة» بعينيها ونظرت إلى الأرضِ، فأحست الفتاةُ بأن «مشمشة» لا عائلَ لها، فرأفت بحالِها، وأخذت تربتُ على جسمِها برفقٍ، ففرحت «مشمشة»، وقالت لنفسِها في سعادةٍ: «الآن أستطيع أن أقولَ لقد نجحت خطّتي».

          مرّت لحظاتٌ، والفتاةُ تداعبُ «مشمشة»، وبعدها أحضرت لها بعضَ اللبنِ وقطعِ الجبنِ الصغيرةِ، فالتهمتها «مشمشة» بشراهةٍ، ثم قامت الفتاةُ لتنامَ، فأخذت معها «مشمشة»، ووضعتها على السريرِ الخاصِ بـ «لوسي» وتركتها لتنامَ، مرَّ وقتٌ قصيرٌ و«مشمشة» سعيدةٌ بدفءِ المكانِ، ولكنها لم تعتد أن تنامَ في هذا الوقتِ، فقامت وقفزت من فوقِ السريرِ، وأسرعت خارجَ الحجرةِ، وتجوّلت ببصرِها في أركانِ البيتِ، فوجدت كلَّ الحجراتِ مغلقةً، ولا يوجد أحد تلعبُ معه، ولا يوجد شيء يسلّى وحدتَها، ولا فئران تسابق الريحَ خلفَها للنيلِ منها، فقرّرت الخروجَ واللعب بالشارعِ، كما اعتادت دائماً، ولكن البابَ مغلقٌ، فبدأت تصرخ مياو.. مياو.. مياو.

          لحظاتٌ واستيقظت الفتاة على صوتِ مواءِ «مشمشة»، واتجهت نحو المواء، لتجدَها واقفةً خلفَ بابِ المنزلِ، تحاولُ فتحه بفمِها وبقدميها الأماميتينِ، وحاولت الفتاةُ جاهدةً أن تبقيها معها، فأحضرت لها غذاءً آخرَ، لكن مازال مواءُ القطةِ يزدادُ، وتمسكها بالبابِ يزدادُ، فلم تجدْ الفتاةُ حلاً سوى فتح البابِ، فانطلقت القطةُ تعدو عبرَ السلمِ، وما إن وصلت للشارعِ، حتى تنفّست الصعداءَ، ثم عاودت انطلاقها نحو المزرعةِ، وهناك وأمام بابَ المزرعةِ، وجدت صاحبَها يتلفت يميناً ويساراً في حيرةٍ، وحينما رآها، قال لها: أين كنت؟ أما هي فقالت في نفسِها وهي تقتربُ من صاحبِها: «لا داعي للحسدِ بعد اليوم».

 

 


 

عزت البنا