رياض والمرفأ.. قصة ورسوم: أمين الباشا
رياض والمرفأ.. قصة ورسوم: أمين الباشا
رياض عمرُه ستُ سنوات، فتى ذكيّ، حسّاسٌ، مطيعٌ، تحبّه العائلةُ، أختاه الاثنتان وأخوه الأكبر الذي كان كأبٍ ثانٍ لرياض. لم يكن رياض يعلمُ ما هو عملُ أبيه. لكنه يعلم أن كل صباح باكر يخرجُ من المنزلِ ويعودُ إليه أولى ساعات الغروبِ. وأول ما كان يفعله الأبُ، هو السؤال عن رياض: أين هو؟ ماذا يفعل؟ هل يدرسُ ويكتبُ فروضَه؟.. إلخ. كان رياض معتاداً سماعَ هذا كلَّ مساءٍ، عند مجيء أبيهِ. ذات يومٍ، وكانت عطلةُ الربيعِ، والمدارسُ تغلقُ أبوابَها، رافقَ رياض والدَه إلى مكانِ عملِهِ. مكتبٌ صغيرٌ، طاولتان، أربعةُ مقاعد. قال الأبُّ لابنِهِ: هل أنت مسرورٌ الآن؟ هنا مكتبي. أكتب أوراقَ العملِ، ثم أذهب إلى الدوائرِ الرسميةِ لإنهاءِ المعاملاتِ. وعرفَ في ذلك النهارِ أن أباه مختصٌ في إخراجِ البضائع التي تصل إلى أصحابِها بواسطة البواخرِ، والمكتب قريبٌ من المرفأ، وسهلٌ الوصولُ إليه، وصار كلّما سنحت له الفرصةُ يذهبُ مع أبيهِ إلى المكتب. بعد مرور بعض الوقتِ، كان يذهبُ إلى المرفأ ويتنزّه في أحيائهِ، ويجلسُ على الصناديقِ الموجودةِ على أرصفةِ المرفأ، وكم كان يحبُّ النظرَ إلى البواخرِ، وكم كان يتمنّى لو يستطيع أن يرسمَها ويرسمَ الحركةَ الدائمةَ في أرجاء المرفأ. ذات يومٍ، كان جالساً على أحدِ الصناديقِ ينظرُ إلى باخرةٍ، تنقلُ ركاباً يتكلّمون لغةً لم يسمع بها رياض من قبلِ، وعلم أنهم ركاب من بلدانٍ مختلفةٍ، وعلم أن لكل بلد لغته، كما أن لكل شعب عاداته، والناسُ الذين رآهم ينزلون من الباخرةِ، أكثرهم طليان، آتون إلى لبنان للسياحةِ، وعلم أيضاً أن اسم الباخرة «أوزوينا»، وشعر منذ ذلك الوقت بأن معلومات جديدة أصبح يعرفُها فيما يخص المرفأ. عرف بعضَ أسماء البواخرِ، وهناك بواخرُ للبضاعةِ وبواخرُ للسياح، وهناك العمال والموظفون ومكاتبهم والحمّالون، لكن الشيء الذي لا يتغيّر في المرفأ هو الرائحةُ، فكأن البضائعَ والناسَ والبواخرَ والبحرَ، كل هذا، يوجد له رائحةٌ خاصةٌ، وصارت هذه الرائحةُ تدعوه إلى السفرِ، والصعودِ إلى باخرةٍ، وزيارة أماكنَها وآلاتَها، والبحّارة، ورؤية البحر، ولكن من أين له كل ذلك؟ وارتضى أن تبقى رغباته أمنيات، ربما سيبحر يوماً وسيسافر على متنِ باخرةٍ. ثم ذات يوم، عندما أنهى دروسَه وكتابة فروضِه، أخذ ورقةً بيضاء، وراح يرسم المرفأ والبواخرَ والناسَ. امتلأت الورقةُ بكلّ ما كان يراهُ على المرفأ. وضعَ القلمَ على طاولتِهِ وأخذ ينظرُ إلى ما رسمَه، وراح في سفرٍ خيالي، رأى كأن الباخرةَ التي رسمها تتحرّكُ، والأمواجَ والغيومَ، والمسافرين والناس الذين يتكلّمون بلغاتٍ لم يفهم منها كلمةً، والمرافئ التي يصلون إليها، ثم فجأةً سمع صوتاً أليفاً يعرفه من قبل أيقظه من أحلامِهِ، كان صوتَ أمّه تدعوه إلى العشاء.
|