فرفوش فأر الحقل

فرفوش فأر الحقل

رسم: روني سعيد

مرحباً! سأعرفكم بنفسي، اسمي فرفوش، وأنا فأرُ حقلٍ. في الحقيقة فأرُ حقلٍ محظوظٌ، لماذا؟ سوف تعرفون. كان ذلك منذ زمن طويلٍ، عندما وقعت بمشكلة، فالصراعُ من أجل البقاء أمرٌ ليس بسهل، وخاصة بالنسبة إلى فأر حقل صغير عندما يجد نفسه أسيراً بين أيدي البشر.

رجل ودود لديه ولدان، أعاد إلي حريتي، في حين أن إنسانة أخذت تركض باهتياج وذهول ذهاباً وإياباً. ولكني استبقت نفسي. يجب أن تعرفوا أولاً كيف كنت أسكن مع عائلتي وكيف ولدت وإلى ما هنالك من تفاصيل.

عمري فقط أربعة شهور، كنا ستة أشقاء، نودة وكرملة، فرفور ونوفة، بعدها كركور، وأخيرهم ولكن ليس أقلهم شأناً، كان داعيكم فرفوش.

عند ولادتي لم أكن أبصر. لم أفتح عيني قبل عشرة أيام. أخبروني في البداية بأني لم أكن مكسواً بالفرو، وأرجلي كانت قصيرة جداً. فَذَنَبِي وأذناي بانوا في النهار الثاني. في الثالث، بدأت أصابع أرجلي تظهر وتنمو، وفجأة في السادس لاح فروي للناظرين.

عملياً، لم ألحظ شيئاً من هذه الأمور. لم أفتح عيني لأرى.

ولكن بعدها، وفي النهار العاشر، فتحت جفني، سررت للقاء عائلتي، فقد كنا جميعاً فئراناً صغيرة حلوة. أنا لا أبالغ، هه؟

كنا ننمو يوماً بعد يوم، حتى أصبح جحرنا صغيراً جداً للعب. ماذا يفعل الأولاد عندما لا توجد غرفة للعب؟ حزرتم طبعاً! يخرجون للعب.

هكذا كان. اتكلنا أنا وإخوتي وأخواتي على أنفسنا، واتجهنا نحو الحقل للعب. ومن دون أن أشعر، سرحت لوحدي بعيداً عنهم، لم أكن أعلم أن هذا خطر. اجتزت الحقل قليلاً قليلاً إلى أن وصلت إلى مكان يمتد فيه الأسمنت بلا حدود.

أوراق النباتات وأشجار الحقل ورائي تحولت إلى لطخ ملونة صغيرة. العالم الذي كان يخفيني عند الجذور الخضراء، استبدلت به سماء شديدة الزرقة رحبة واسعة، يا للهول!

وبدل اللجوء إلى أوراق النباتات للاحتماء تحتها، وقفت وسط مسرح الأسمنت مذهولاً لا أجد أي مكان للاختباء.

نظرت من حولي جيداً، إلى شمالي طريق لا تنتهي ربما، أما إلى يميني، فقد رأيت طريقاً خلفها منزلٌ لأحد البشر، تعلو بالقرب منه نبتة يمكن أن تسترني. ركضت بأسرع ما يمكن لفأر أن يفعل. قفزت كالقرد مسرعاً حتى وصلت إلى المكان.. أخيراً.

مكان مدهش بالفعل! فالنبتة وارفة وتستر الفيل ربما!

ولكن، ما هذه الفسحة اللماعة المتموجة الزرقاء؟ إنها بلون السماء!

آه عرفت! إنه مسبح! اقتربت لأتأمله من كثب ولكن، زلت قدمي على بلاط طرفه المبتل ماء، وبلوف! في الماء طبعاً!

أوه لا! صرخت صامتاً - طبعاً صامتاً فالماء غمرني بالكامل - ماذا سأفعل الآن وأنا لم أجرب السباحة سابقاً. آه يا إلهي.

أعدك بأني لن أتجول بعيداً عن المنزل مرة أخرى، لاحظت فجأة أن الوضع باستلقائي بشكل مسطح على ظهري سمح لجسدي بالعوم.

ولكي أتنفس،أملت رأسي قليلاً، فاتجه أنفي نحو السماء.

ولكن يا للعجب! فمع تحركات أرجلي القصيرة جدا من دون روية واهتياج ونحو الخلف، دفعتني قليلا قليلاً نحو الأمام.

بهذه الطريقة من الحركة كنت أتطلع إلى الخلاص. سبحت وسبحت وسبحت، ولكن مع كل حافة من المسبح، كنت أجد حائطاً عالياً كالبرج.

الظاهر أن صلواتي لن تستجاب، عرفت حينها أن مصيري ذلك اليوم كان الموت.

وبينما كانت رئتاي تخرجان أواخر ما تبقى من أنفس، أغمضت عيني لملاقاة قدري، كان العالم يغيب أكثر فأكثر بعيداً.

بعدها انفجرت صرخة: «فأر»!

حررتني هذه الصرخة من حالتي الفكرية والنفسية. رأيت بشريين صغيرين جداً، اعتقدت أن اسميهما هادي وهادية، ولكن عندما تعافيت فيما بعد، تبين أن اسميهما كان في الواقع شادي وشادية.

زعق الاثنان أكثر وأكثر، بعدها أسرعا نحو المنزل، ثم خرجا منه بصحبة امرأة عجوز.

هرولت تلك العجوز باتجاه المسبح برجليها المصطكتين وصرخت: «جرذ»!

«هناك جرذ في البركة»، قالت هذا وانطلقت مبتعدة وكأنها رأت شبحاً، ثم التفتت وصرخت بالولدين: «ارجعا، ارجعا، ابقيا بعيدين عن الجرذ»، وقتها، وأكثر من أي وقت، تأكدت أني سأموت، إما على يد العجوز التي ستميتني فزعاً، وإما على يد ذلك الجرذ الذي إن لم يكن صديقاً للفئران، فإنه سوف يعتبرني دون شك، عشاءه الليلة.

وبينما كانت تلك السيدة تركض ذهاباً وإياباً باتجاه المسبح ومعها صوتها الأجش الزاعق، كنت أحاول جاهداً إيجاد ذلك الجرذ.

المفروض أن يكون قريباً، فكل مرة تقترب العجوز باتجاهي وتصرخ: «جرذ».

تفحصت المكان من حولي جيداً، ولكني لم أجد أي أثر للجرذ الذي أزعج السيدة العجوز.

فجأة، وكأن أعجوبة حصلت، انتشلت من ذلك المسبح المشئوم!

كان شادي هو من أنقذ حياتي بواسطة شبكة صغيرة مربوطة بعصا خشبية طويلة.

مددني على الأرض قرب المسبح، كنت متعباً ومنهكاً، وبسبب انعدام الحركة لدي، اعتقد البعض أني مت.

عرفت حينها أن الوضع يستحق حركة صغيرة كي أجعلهم يعلمون بأني مازلت حياً أرزق.

«ما هذا» سمعت شادية تسأل «أهو جرذ أم سنجاب؟».

أجابت العجوز بسرعة: «إنه جرذ، إنه جرذ!».

وأضاف شادي قائلا: «أعتقد أنه سنجاب!».

صرخت العجوز قائلة: «أنا جدتكما وأعرف أكثر منكما! إنه جرذ، جرذ، جرذ».

عندها فكرت بنفسي: «إذن تلك العجوز هي جدة شادي وشادية، وأنا هو الجرذ الذي أرعبها في الماء».

رفعت ذقني قليلاً، قليلاً فقط، ومع هذا فقد هللوا وكأنهم فازوا بجائزة.

بلطف وعناية، التقطتني شادية بيدها، وقربتني بمودة إلى وجهها، وعندما فتحت عيني، رأيت وجهها القريب جداً وعينيها المشوشتين وكأنهما لاتزالان تتساءلان عن كوني جرذاً أم سنجابا.

«أنا فأر حقل كما ترون ولست سنجاباً ولا جرذاً».

«ماذا دهاكم، أنا آكل الفواكه، الحبوب والمكسرات، وبعض المرات ذرة وبذوراً، وأحياناً الحشرات - تفووووه!.. ولكن القليل جدا فقط».

وقال شادي مقترحاً: «لنقتنيه ويكون حيواننا الأليف»، «يمكننا أن نشتري له قفصاً ونبقيه داخله». وبعد احتدام قرروا تسميتي بـ «توتة».

«توتة»؟؟ «أنا لست «توتة» - فكرت «أنا فرفوش يا ناس. ألا تميزون فتيانكم من فتياتكم؟ «البشر!! وجدتهم فعلاً غريبي الأطوار».

بعد دقائق وجدت نفسي في علبة بنيّة اللون، عميقة، جدرانها منحدرة تمنع الهرب لمن يفكر بذلك. عندها أدركت أن الأمور يفلت زمامها من يدي.

استسلمت لقدري وجعلت آكل بعض أوراق الخس الذي وضعوه لي في العلبة.

مضغت كثيراً وابتلعت كثيراً حتى انتفخ بطني، فسباحتي في البركة أنهكتني وجعلتني جائعاً.

تكلم البشر لمدة، بعدها غادروا لا أدري إلى أين أو لماذا؟

فجأة، بدأت الأرض تهتز - هذا ما أحسسته - ولكن بعدها سمعت شادي يقول: «سأبقيه فوق ركبتي في السيارة يا أبي».

«الظاهر أننا ذاهبون لمكان ما» - فكرت - «ولكن ليس مشياً أو ركضاً».

دخلنا إلى صندوق حديدي كبير، أحدث بعض الضجة، ثم انطلق.

عرفت حينها أنه ما يدعى بالسيارة.

وبعد قليل فتح غطاء علبتي وبان وجه امرأة، حدقت بي جيداً ثم قالت: «إنه فأر حقل وليس فأرة يا أولادي». ثم أغلقت الغطاء من جديد.

فصرخت العجوز: «ماذا! أوليس جرذاً؟».

وبعد نقاش، اقتنعت العجوز بأني لست جرذاً ولست فأرة بل فأر، وفأر حقل أيضاً.

سمعت الرجل يقول لشادي وشادية: «حسناً، بما أن أمكما رأت الحيوان وأدركت أنه فأر، سوف نلغي نزهتنا المقررة وسنتجه إلى مكان آخر».

فسأل شادي وشادية معاً: «إلى مكان آخر؟ إلى أين؟».

«سوف تعرفان» أجاب الأب.

بعد قليل توقفت السيارة في مكان ما. لم أره طبعاً.

ثم سمعت الأب يقول: «ما رأيكم أن نفلت الفأر هنا، في هذا الحقل؟».

أنا، وكأنني في حلم، لم أصدق ما سمعته إلى أن سمعت المزيد.

«نعم يا بابا، هذا هو المكان المناسب لفأر حقل!» قال شادي وشادية معاً!

ثم أردفت شادية: «هل أنت متأكد يا بابا، أن فأر الحقل ليس حيواناً يمكن استئناسه».

«نعم يا ابنتي!» قال الأب «فأر الحقل بحاجة إلى أن يكون حراً».

عندها، وبأسى، أكملت شادية: «إن كان يجب ذلك، فليكن، ولكننا سنفتقده حقاً».

أخرجني شادي بيده وحملني برفق وعناية، ثم مشى مع أخته، وأمه وأبيه باتجاه حقل بعيد قليلاً، وبقيت العجوز منتظرة قرب السيارة تنظر إلينا من بعيد. بقينا نمشي لفترة، بعدها وصلنا إلى حقل مخملي شاسع، حيث أطلقوا سراحي.

قال شادي: «إلى اللقاء توتة أو عفواً، لا أدري اسمك يا فأري الظريف»، ثم أكمل «مهما كان اسمك، فأنا أحببتك جداً ولن أنساك».

أما شادية، فقد استفاضت عليّ بقبل كثيرة، لوّح الأب بيده وتمنّت لي زوجته حياة جيدة.

مضيت أعدو مسرعاً، لا أصدق بأني ملك نفسي الآن! شكراً ياربي وشكراً أيتها العائلة الرائعة!

وإذا ما صادفتم يوماً يا أحبابي حيوانا برياً ويحتاج إلى مساعدتكم، فقط تذكروا عائلة شادي وشادية وكيف تصرفوا. لذا، ساعدوا الحيوان قدر الإمكان، وبعدها أطلقوه حراً، ولا تصحبوه إلى المنزل ليعيش معكم.

اتفقنا؟

 


 

روني سعيد