بحر الكتب

بحر الكتب

رسوم: بلال بصل

كان نبيل جالساً على إحدى صخور قريته الجميلة، قبالة متنفسه الوحيد البحر الواسع، يراقب تراقص موجاته التي تتقاذف إلى الشاطئ الرملي ذي اللون الذهبي.. رغم هذا المنظر الجميل، كان يعاني من الملل والضجر، وللقضاء عليهما، كان يمارس إحدى هواياته المفضلة، ألا وهي السباحة والغوص.

خلع نبيل ملابسه كعادته متجهاً إلى البحر للغوص في أعماقه واكتشاف سحره، لكن هذه المرة لن تكون كسابقاتها، غاص في المياه كمن يسبح في الفضاء، أعماق البحار عالمٌ آخر، أسماك وحيوانات بحرية مختلفة الأشكال والألوان، عالم جميل يأخذ بسحره من غاص بداخله، أما القاع، فأرض جميلة نبتت عليها الأعشاب وتعلق بها المرجان الزهري، واحتل حيوان نجم البحر مكانه ليجعل من القاع لوحة متناغمة. دهش نبيل! ولكن ليس مما رأى، فهو معتاد رؤية هذا الجمال، ما أدهشه رؤية كتاب في قاع البحر، صعد إلى سطح الماء، أخذ نفساً عميقاً وغاص من جديد، لكن هذه المرة مباشرة إلى القاع.. نحو الكتاب، أمسك به وحمله معه إلى سطح الماء، ومنه إلى الشاطئ والشك يساوره بأن يجد شيئاً داخل هذا الكتاب، لأن مياه البحر المالحة تكون قد فعلت فعلتها وقضت على محتوياته، وتسببت في اهتراء أوراقه.

جلس نبيل على رمال الشاطئ يتنفس الصعداء، ويمسح بيده الكتاب ليزيل الترسبات التي علقت به، فتح الكتاب وهناك كانت المفاجأة، حيث صارت صفحات الكتاب بشكل فوري جديدةً وكأنها طبعت في هذه اللحظات، كانت الدهشة تتملك نبيل مما رأى ومما قرأ في صفحته الأولى «كتاب الطاقة.. استفد من الطاقة التي حولك». بقيت الدهشة ترافقه لحين وصوله إلى منزله والدخول إلى غرفته، وضع الكتاب في خزانته وتوجه إلى مكتبة والده يبحث داخل الكتب الموجودة على الرفوف، عما يشير إلى كتاب يسمّى «كتاب الطاقة».. ولكن دون جدوى. انتظر عودة والده عند المساء ليخبره بما حصل. استغرب والد نبيل الأمر مصدقاً ما قاله ابنه لأنه لم يعتد منه إلا الصدق، جلسا معاً ليقرآه ويطلعا على مضمونه، معلومات وخبرات جمعت من شتى الأنحاء، وصلا إلى موضوع يتحدث عن كيفية رفع الماء إلى المناطق العالية بواسطة طاقة الهواء، لفت نظرهما هذا الموضوع كون الجزء الأعلى من القرية التي يقطنانها، يعتمد على الدواب في نقل كميات من مياه النبع الموجود في أسفل القرية، والتي بالكاد تكفي حاجات السكان. الفكرة مشروحة بالتفصيل ولكنها تشير إلى الحاجة للاطلاع على كتابين آخرين، الأول عن كيفية عمل «دواليب الهواء» وبداخله خرائط مفصلة عن صناعة هذه الدواليب، والثاني عن المواد المستعملة في صناعة هذه الدواليب من معادن وأخشاب، سأل الوالد ابنه على الفور: «هل تذكر المكان الذي أحضرت منه كتاب الطاقة في البحر؟». أجابه نبيل: «بالطبع يا أبي، غداً صباحاً سأغوص في نفس المكان لأبحث عن الكتابين الذين نحن بحاجة إليهما، ما رأيك؟».أجاب والده حينها: «بالطبع يا نبيل، علينا أن نبحث عن المزيد من العلم والمعرفة، وإحساسي يقول لي إنك ستجد المزيد من الكتب في قاع بحر الكتب هذا».. وبالفعل، في صباح اليوم التالي، غاص الابن في نفس المكان، ليجد المزيد من الكتب في قاع البحر، وبينهما الكتابان اللذان يبحث عنهما.

ذهب نبيل بصحبة والده ومعهما «كتاب الطاقة» وباقي الكتب وتوجها إلى أعلى القرية حيث يقطن خال نبيل ويعمل نجاراً، فأعجب كثيراً بمحتويات الكتب والشرح المفصل الذي يسهل تنفيذ الفكرة، فقرروا جميعاً صناعة دواليب الهواء. شاع الخبر في القرية، وما لبث أن هم الجميع للمساعدة في تنفيذ المشروع، فمنهم من ساعد في حفر الأرض لغرس قواعد دواليب الهواء الخشبية الكبيرة، ومنهم من ساعد خال نبيل في قطع الخشب وصناعته، ومنهم من وضع يده مع حداد القرية ليصنع السلاسل المعدنية والأنابيب التي ستمر بداخلها المياه. أما نبيل فكان يمسك بالكتب ويعطي التوجيهات للجميع وكأنه مهندس المشروع، يساعده والده في شرح التفاصيل. الكل يعمل، سكان الجزء السفلي من القرية يصعدون يومياً للمساعدة في إنجاز المشروع، ثمانية أيام مرت والعمل مستمر ونبيل يحمل كتبه ويراقب جميع الأمور ويتأكد من دقة التنفيذ، اليوم التاسع كان مفصلياً، منصة دواليب الهواء الضخمة دعمت قواعدها في الأرض، الأنابيب مدت، كل شيء أصبح جاهزاً ولا ينقص سوى صعود نبيل وحداد القرية إلى أعلى المنصة، لتركيب السلاسل المعدنية على المراوح بالشكل الصحيح.. جميع سكان الجزء العلوي من القرية يوجهون أنظارهم إلى الأعلى، لرؤية بدء دوران دواليب الهواء وصعود الماء، ما هي الا لحظات ودارت الدواليب، لم يصدق السكان ما رأوا، خلال ثلاث دقائق كانت المياه تتدفق الى الخزان الذي صنع لها، الجميع سعداء، كل واحد منهم يمد يده ليشرب مبتهجاً بها، وكأنها غير الماء التي اعتادها، نبيل ووالده وخاله وحداد القرية يجلسون ويضحكون بسرور كبير، الفرح يغمرهم بنجاح المشروع. نَعِمَ جميع أرجاء القرية وسكانها بماء النبع التي وصلت إلى كل مكان. أما نبيل فأصبح من الباحثين، ومكتبته تزخر بجميع أنواع الكتب في شتى المجالات، يستنبط منها العلوم استعداداً لكتابة أفكار جديدة، قد يجمعها يوماً في كتاب.

 


 

جلال بصل