اثنتا عشرة زيتونةً وزيتونة

اثنتا عشرة زيتونةً وزيتونة

رسم: أماني البابا

في قريةٍ صغيرةٍ من قرى فلسطين لأشجارِ الزيتونِ أسماء.. أحمد، مريم، فاطمة وهكذا.

القريةُ يحيطُ بها جدارٌ رماديٌ خشنٌ، خارج حدوده كانت ترقصُ أشجارُ الزيتونِ ومن داخلِه ينبعُ صوتُ ترنيمٍ يرتّلُ موالاً قديماً:

زيتونتنا.. يا شجرة الزيتونِ متى يأتي الغالي؟ متى يا ورد يأتي؟ قال لي: السورُ عالٍ.

إنه صوتُ الجدةِ أم إبراهيم منحنية بخشوعٍ تحت أغصانِ شجيراتها الصغيرة تداعب حبات الزيتون الخضراء يتسلّقُ أحد أحفادها أعلى الشجرةِ يهزُّ أغصانَها مسقطاً ما نضجَ من حباتِ الزيتونِ، تستقبلُ الجدة براحةِ يدها ما يسقط من حبات.

أم إبراهيم معروفة عند أهل القريةِ بحكمتها وطيبتها.

سألها أحفادُها: جدتي لم أنت الوحيدة التي تملك أشجارَ زيتون بالقريةِ؟

الجدة: لم أكن أنا الوحيدة.

كلنا كنا نملك الزيتونَ.

الحفيد: ولكن كيف أصبح سكان القريةِ بلا أشجار؟

قالت الجدةُ لأصغرِ أحفادِها: كان موسمُ الزيتون في القريةِ يستمر بالأسابيعِ، وكانت عندنا آلاف الأشجار، أصغر واحدة منها عمرها من عمرِك. وكان الشبابُ والصبايا في كلِّ موسمٍ يجتمعون ويرقصون الدبكةَ وتعمُّ الفرحةُ احتفالاً بموسم الزيتونِ، وننطلقُ بالزوادةِ إلى الأرضِ ليعلن بدء موسم القطاف الذي يستمر عدة أسابيع بين القطاف وتحضير الأرض للموسمِ القادمِ ثم عصر الزيتون وبيعه، كان عيداً بالنسبةِ للقرويين.

قبل ثلاث سنوات، كانت السنةُ سنةَ خيرٍ، وكان يتساقطُ الزيتونُ كحبات اللؤلؤ بمجرد أن تهزُّ الشجرةُ قليلاً، وبينما كنا نقطفُ، جاء جنود الاحتلال الإسرائيلي، وجمعونا وهددونا بالسلاحِ ومنعونا من القطافِ، وحاولوا هم قطف الثمار، لكن الزيتونَ وبشكلٍ عجيبٍ، لم يتساقط، كانت ثماره أصلب من الحجرِ.

غضب الجنودُ جداً، وصاروا يضربون الأشجارَ ببنادقهم يميناً وشمالاً.

فرّقنا الجنودُ لنعود للقريةِ، وفي الصباحِ، استيقظ أهل القريةِ على دخانٍ غطى السماء، لقد أحرقوا الأرضَ بما عليها، وأحرقوا قلبي معها.. قالت الجدةُ واصفةً المنظرَ.

ثم قالت الجدةُ لحفيدِها الصغيرِ الذي أمسكَ حبات الزيتون في يديه بقوةٍ وانتباهٍ: لم أعرف كيف وجدت نفسي هناك، أحاول إطفاء النار بثوبي وبطرحة رأسي، كانت روحي تغادرني مع كل غصنٍ يحترق، فقد كبرت مع هذه الزيتونات، رعيتها كما أرعى أبنائي وأكثر.

قاومت الجدة دمعات كانت تتسلل على خدّها.

قال الصغيرُ: ومن أين أتت هذه الزيتونات المزروعة حول منزلنا ياجدة؟ فأنا لم أشاهد موسمَ زيتون من قبل.

قالت الجدة: بعد أن احترقت الأشجارَ وبنى الجنود الجدارَ، جاءنا من وراءِ الجدارِ طائرٌ ملونٌ بألوانِ الفرحِ، ألوان قوس قزح يحمل شتلةَ زيتون صغيرة رماها عند الباب، فأخذتها وزرعت منها حول المنزلِ ثلاث عشرة شتلة زيتون بعددِ أحفادي، وأطلقت على كل واحدةٍ منها اسم أحد أحفادي، والسنة، أول سنة تثمر فيها الزيتونات. قالت الجدةُ، وقد رسمت تجاعيدُ وجهها ابتسامةً صغيرةً.

ثم همست الجدةُ في أذني حفيدها:

صحيح أنهم أخذوا الأرضَ، وصحيح أنهم أحرقوا الشجرَ، لكن هذه شجرةٌ مباركةٌ.. وأكملت الجدةُ قطفَ الزيتونات هي وحفيدها.

 

 


 

أماني البابا