صاحبُ القبعةِ

صاحبُ القبعةِ

رسوم: عفراء اليوسف

في بلدةٍ صغيرةٍ وهادئة، كان يعيش رجلٌ طيبٌ وظريفٌ في بيتٍ صغيرٍ يطل على السوق المركزي.

كان لهذا الرجل قبعةٌ غريبة ورثها عن أبيه الذي ورثها بدوره عن أبيه وهكذا فهي تعود لجدِ جدِ جده أو حتى أقدم. فقد كانت قديمةً جداً قد أجري عليها الكثير من التعديلات على مرّ السنين، حتى أنه لا يمكن وصفُ طابعها أو شكلها أو زمن تصميمها، فهي كبيرةُ الحواف عظيمةٌ عليها زخارف من كل الأزمنة والحقب التي مرّت خلالها، فعلى أحد جوانبها أزهارٌ متضاربةُ الألوانِ وعلى الحواف زركشات فاقعةٌ تصعد إلى أن تنتهي عند حزمةٍ من الرياش العالية يتناقض تصميها من الأعلى مع الحواف الفارهة بل والمضحكة التي تنتتهي بها في الجزء السفلي، لكن كان صاحبنا يأبى إلا أن يلبسها دائما.

يلبسها وهو يأكل، وهو يعمل، وهو يجلس في المقهى مع أصدقائه، حتى أنه كان يلبسها أثناء النومِ والاستحمام.

وهكذا فقد اعتاد الجميعُ أن يروه بها، حتى أنهم يلقبونه بصاحب القبعة، جاء صاحبُ القبعة، وذهب صاحب القبعة، هل سمعت صاحبَ القبعةِ عندما قال هذا؟ هل رأيتَ صاحبَ القبعةِ عندما فعل ذلك؟

واستمرت الحال على هذا المنوال إلى أن جاء يوم هبت فيه عاصفة قوية على البلدة، وكان صاحبُ القبعة حينذاك في طريق عودته إلى منزله يحمل في يده الخضار والفاكهة التي جلبها من أجلِ العشاء.

بدأت الرياح تشتد ثم تشتدُ، وهو يحاول الإمساك بحاجياته في يد والإمساك بقبعته في اليد الأخرى، لكن العاصفة ظلت تشتد والرياح تتسارع حينها ترك الرجلُ الخضارَ والفاكهةَ تتدحرج على الأرض.

وأمسكَ بالقبعة بكل ما أوتي من قوة، ومن شدة حرصه على الإمساك بها من جهة، وشدة الرياح التي تعصف بحوافها العظيمة من جهة أخرى تمزقت القبعةُ القديمةُ إربا (قطعاً صغيرة) وطارت عاليا جدا في الهواء.

ركض الرجل المسكين وركض محاولاً لملمة المزق المتطايرة، ركض في كل الاتجاهات صارخاً منادياً قبعته الغالية، طبعاً دون جدوى. مع مغيب الشمس يئس أخيراً وجلس على قارعة الطريق يبكي حتى وقت متأخر في تلك الليلة.

ظل صاحب القبعة - أو الذي كان صاحب القبعة - في فراشه يعاني من الحمى لفترة طويلة إثر الحادث الأليم. كان غير قادر على أن يرى أحداً أو يكلم أحداً، إلى أن جاء يوم استطاعت فيه زوجته الطيبة إقناعه بمتابعة حياته والعودة إلى عمله على الأقل من أجل الأطفال - هكذا قالت.

هكذا قرر الرجل أخيراً الذهاب إلى العمل من جديد، فجرجر نفسه ونزل إلى الشارع متجهاً إلى مكتبه. لكن وللمفاجأة لم يعرفه أحد دون القبعة، لم يعرفه الخباز الذي اعتاد على تحيته صباحاً «صباح الخير يا صاحب القبعة» ولم يعرفه بائع الخضار، حتى لم يعرفه أصدقاؤه في العمل، فقد بدا جد مختلف دون قبعته وهو حاسر الرأس ضعيف وفاقد الثقة بنفسه، مزاجه غير رائق على الإطلاق.

لقد وعى الرجل تماماً أن قبعة قديمة وبالية أصبحت بسبب تمسكه الشديد بها، جزءاً من شخصه هو نفسه، جزءاً من عاداته وطباعه، جزءاً حتى من شكله وجسده.

فكر، وفكر ملياً (طويلاً) وقرر أن يبدأ من جديد، أن يعود إلى حياته دون إضافات، دون قبعات برياش عالية وزخارف ملونة، يريد أن تحبه عائلة وأصدقاؤه كما هو، وأن ينادوه باسمه هو وليس بـ «صاحب القبعة».

حينها نزل ثانية إلى العمل والمقهى والسوق، مرحاً أكثر من السابق، واثقاً بنفسه أكثر من السابق، سعيداً أكثر من السابق.

 


 

عفراء اليوسف