استغاثةُ غزالةٍ

استغاثةُ غزالةٍ

رسوم: رضوان الريّاحي

ما إنْ فتحت الحافلةُ أبوابَها حتى اندفعنا منها. وركضنا في ربوعِ السهلِ الفسيحِ. كأننا سيلٌ هادرٌ. وقد ملأنا الفضاءَ صياحاً وضحكات. لقد دبّت الحياةُ في هذا المكانً الهادئ ساعةَ وصولنا، نظرتُ حولي وقلتُ: «سبحان الله ما أروع ما أرى». إذ لم أكنْ أتوقع عندما وطأت قدمايَ هذه الأرض أن أنبهر بهذا المشهدِ الذي أمامي، أرضٌ منبسطةٌ يغطّيها العشبُ، وتتناثرُ في أرجائِها زهورٌ بريّةٌ مختلفةُ الألوانِ. وفي الأفقِ البعيدِ تلوحُ قممُ الجبالِ الرمادية وهي تحيط بنا كأنّها سورٌ منيع يحول دون الأخطارِ والأذى. كان الفريقُ الذي كنتُ أصحبه مؤلفاً من ستة أولاد وخمس بنات ومعهم المشرفُ عليهم. وقد جاؤوا إلى هذا المكانِ في رحلةٍ استكشافيةٍ علميّةٍ.

كان الجميعُ يتحرّكون بحذرٍ شديدٍ، كأنهم يسيرون فوقَ زجاج هشّ. وكان عليّ أن أقلّدهم في مشيتِهم، وألاّ أسألهم عن شيءٍ. وكلّما هممتُ بالحديثِ خاطبوني بكلمةٍ واحدةٍ كأنهم لا يعرفون سواها قائلين: «مه.. مه». ندمتُ على الحضورِ إلى هذا المكانِ الفسيحِ الذي أُجبرتُ فيه على كتمِ أنفاسي. غير أنّ مرور تلك الغزالة ذات العينين السوداوين الواسعتين على مقربةٍ منّي بدّد إحساسي بالضجر، فقد شدّتني حركاتُها الرشيقةُ، وهي تنتقي الأعشابَ الطريةَ بعنايةٍ. وكأنّها تغنّي وتقولُ:

«أنا الأميرةُ برشاقةٍ
إلى الحريةِ توّاقةٌ
لا آكلُ عشباً بل باقةً
فأنا في أكلي ذوّاقةٌ»

لم أقتربْ في حياتي من غزالةٍ مثل هذه المرّةِ. فكنت منبهراً بجمالِها الطبيعي، وبتناسق ألوانها، والأجمل أنها طليقةٌ في محيطِها بلا أقفاص تحاصرُها، أو بندقية صياد تطاردها. فكانت تأكلُ في طمأنينةٍ وهدوءٍ، قلّ أن تجده في مكانٍ آخرٍ. حتّى أنها لم تلحظ وجودَنا. وفجأةً انكسرَ عودٌ يابسٌ تحت رجلي. فرفعت رأسَها، ثم رنّت إلينا. فانطلقت أزرار آلات التصويرِ تحدثُ أصوات فرقعات وطقطقات، ملتقطة لها مشاهد رائعة. عندها صحت: «التقطوا لي صورةً معها». فذعرت من هذه الجلبة، وراعها وسط السّكون صوتي. فانسحبت من المكانِ بخفّةٍ عجيبةٍ، ناقرةً الأرضَ بقوائمِها النحيفةِ. واختفت عن الأنظارِ. فالتفت إليّ الجميع. ورموني بنظراتِ اللوم والعتاب. فبادرتهم قائلاً: «فهمتُ. معذرةً، لكم عليّ الصمت والسكوت حتّى العودةِ».

لم تمضْ ساعةٌ حتى سمعت صرخةً حادّةً لحيوانٍ يبدو في ورطةٍ.

أنصت المشرفُ جيداً ثم قال:

- هذا صوتُ غزالة.. علينا تتبّع مصدره.

تذكّرتُ المكانَ الذي لمحتُ فيه الغزالةَ آخر مرّة. فقلتُ للجماعةِ:

- أظنني أعرف مصدرَ الصوتِ. فهيّا اتبعوني.

ثمّ أسرعتُ في اتجاه الصخرةِ السّمراء حيث كنت، وما إن وصلت وألقيت نظرةً حتى رأيتها. وقد التوت إحدى رجليها، وقد علقت في فجوةٍ ضيّقةٍ بين حجرين كبيرين. كانت تنظرُ إليّ وتصيح تكاد تكلّمني قائلةً: أيها الإنسان، يا من ملأ اللهُ قلبَك بالحنانِ، خلّصني أرجوك.

ناديتُ أصحابي بسرعةٍ إلى المكانِ. فهرعوا إليّ. وقمنا بتخليصِها وتضميدِها. وقلت لها بعد أن استوت على رجليها:

- أرجو أن تكون مساعدتي لك هذه المرةِ. اعتذاراً مقبولاً عمّا سبّبته لك من ذعرٍ منذ قليل. وعفا الله عمّا سلف.

ضحك الأصدقاءُ وركضت الغزالة بعيداً واختفت عن الأنظارِ. ثمّ واصلنا طريقنا عبر مسالك خاصّة، يتبع فيها بعضُنا بعضاً في شكلِ خيطٍ هندي. وكان أعضاءُ الفريق لا يتركون شيئاً إلا التقطوه بآلاتِ التصويرِ، زهرة بريّة أو حشرة ظريفة.

كنت أتابعهم في أنشطتِهم. ثم صرتُ أدلّهم على أماكن فيها كائنات تستحقْ اهتمامهم. وكنت أسرعُ الخطى، كأنّي دليلُهم لأستمتع بلذّة مشاركتهم ومساعدتهم في البحثِ. واكتشفتُ في نفسيِ قدرةً هائلةً على تحديدِ أفضل المواقعِ ورصد أنسب الأماكن. بل وأتدخّل حتّى في اختيار زاوية التصويرِ. وكان استحسانُهم يزيد من عزمي ويعلي من همّتي على المثابرةِ. فكنت لا آبه (أهتم) بقطراتِ العَرَق المتصبّبةِ من جبيني، ولا بوخز الشّوكِ أحياناً. فقد كانت تغمرني سعادةٌ عارمةٌ.

كانت فترةُ الاستراحةِ فرصةً للتعّرفِ إلى تفاصيلِ مثيرةٍ عن المحميّةِ وكائناتها. ولم ننس قبل الانصراف أن نتركَ المكان نظيفاً كما وجدناه. وأشرفت بنفسي على ذلك، والغريب أني كنت لا أبالي بذلك في حياتي اليوميةِ.

مرّ اليومُ في المحميّةِ كأنه لحظات. الحقيقةُ أحببتُ هذا المكانِ، ورغبتُ في زيارتِهِ ثانيةً. وأحببتُ الفريقَ واكتشفتُ في نفسي ميلاً جارفاً للطبيعةِ وكائناتها، ورغبةً في معرفةِ أسرارها وكنوزها. وقد علمت أن وطني فيه مناطقٌ رائعةٌ تستحقّ الزيارة والاكتشاف، كهذا المكان الذي جئت إليه من دون قصد. أجل.. من دون قصد. فأنا زائرٌ بلا دعوة أو مناسبة، لأني كنت صاحبَ آلة التصويرِ التي يستعملها أحد أفراد الفريقِ. وهو صديقي. وقد أعرتها له على أن أكون مع آلتي حيث سارت، حتى أضمن سلامتها. وقديماً قيل «ربّ صدفة خيرٌ من ألفِ ميعاد».

 


 

عماد الجلاصي