أُريدُ أَنْ أَطيرَ

أُريدُ أَنْ أَطيرَ

رسوم: أحمد عز

اسْمَحوا لي، يَا أَطْفالي، أَنْ أُغَيِّرَ الْمَثَلَ السّائرَ: «كُلُّ نِعْمَةٍ في طَيِّها نِقْمَةٌ» فَيَصيرَ: «كُلُّ نِقْمَةٍ في طَيِّها نِعْمَةٌ». سَتَسْألونَني في دَهْشَةٍ: ماذا تَقْصِدينَ بِهَذا التَّغْييرِ؟!..وأنا سَأُجيبُكُمْ بِثِقَةٍ في نَفْسي: إنَّ الصِّيغَةَ الثّانِيَةَ لِلْمَثَلِ تَنْطَبِقُ عَلَيَّ تَماماً، فَلَوْلا «النِّقْمَةُ» لَمَا صِرْتُ أَوَّلَ طَيّارَةٍ مَغْرِبِيَّةٍ، وأَصْغَرَ طَيّارَةٍ في الْعالَمِ كُلِّهِ، وهَذا ماسَأَحْكيهِ لَكُمْ، فَافْتَحوا لي آذانَكُمْ، واسْمَعوني جَيِّداً:

هَلْ زُرْتُمْ مَدينَةَ فاسٍ، الْعاصِمَةِ الْعِلْمِيَّةِ لِوَطَنِكُمْ المغرب؟..أوْ هَلْ سَمِعْتُمْ بِها أوْ قَرَأْتُمْ عَنْها شَيْئاً؟

إنَّها تَتَألَّفُ مِنْ أرْبَعِ مُدُنٍ، هِيَ: الْقَرَوِيِّينَ، الأنْدَلُسُ، فاسُ الْجَديدَةُ، وفاسُ الْحَديثَةُ. لا عَلَيْنا، فَفي الأولى، ذاتِ الآثارِ الأنْدَلُسِيَّةِ، بِحَيِّ الْقَلْقَلِيِّينَ، وُلِدْتُ يَوْمَ الْخَميسِ 14 ديسمبر 1937 في السّاعَةِ السّادِسَةِ وعَشْرِ دَقائقَ صَباحاً، في عائلَةٍ غَنِيَّةٍ ومُثَقَّفَةٍ، تَعَهَّدَتْني بِالتَّرْبِيةِ والتَّعْليمِ، وعُمْري لا يَتَجاوَزُ سَنَتَيْنِ؛ إذْ نَحَتَ لي أبي الْحَروفَ الْهِجائيَّةَ مِنَ الْعاجِ، لأنَّ في زَمَنِنا آنَذاكَ، لَمْ تَكُنْ توجَدُ ألْعابُ الْقِراءَةِ والرَّسْمِ والتَّرْكيبِ.فَكُنْتُ أُرَتِّبُ الْحُروفَ لأُكَوِّنَ جُمْلَةً، وأَحْياناً يُلاعِبُني أبـي، فَيُخْفي حَرْفاً، فَأصيحُ بِأعْلى صَوْتي: أيْنَ لامي؟ أعْطني سيني!.. يَأَبي، لِماذا تُخَبِّئُ صادي؟.. وبِهَذِهِ الطَّريقَةِ الْمُسَلِّيَّةِ، تَعَلَّمْتُ الْحُروفَ الْعَرَبِيَّةَ أوَّلاً، والْقِراءَةَ ثانِياً، والْكِتابَةَ ثالِثاً، وأنا في الْمَنْزِلِ!

لَمْ أكُنْ أُحِبُّ اللّعِبَ بِالألْعابِ الْبَسيطَةِ، الَّتي لا تُنَشِّطُ الْعَقْلَ، كَالدُّمى والأواني..وإنَّما كُنْتُ أُقْبِلُ عَلى الألْعابِ الآلِيَّةِ، مِثْلَ الْقِطارِ والسَّيّارَةِ والطَّيّارَةِ والأُرْجوحَةِ، لأنَّها تَشْحَذُ ذَكائي بِحَرَكَتِها، وتَدْفَعُنِي إلى التَّفْكيرِ والتَّساؤُلِ: كَيْفَ تُشَغَّلُ؟..ما الَّذي يُحَرِّكُها؟..ماذا أعْمَلُ بِها؟..ما هِيَ فائِدَتُها؟

ولَمّا بَلَغْتُ السَّنَةَ الثّالِثَةَ، أصابَني مَرَضٌ رئوي عادِيٌّ، غَيْرُ خَطيرٍ، يُعاني مِنْهُ الأطْفالُ فَتْرَةً، ثُمَّ يُشْفَوْنَ مِنْهُ. لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إلَيَّ، لَمْ يَنْفعْ فيهِ دَواءٌ، وظَلَّ يُلازِمُني، سَواءً في يَقَظَتي أوْ في نَوْمي، وهَذا ماقَصَدْتُهُ بِـ«النِّقْمَةِ» الَّتي سَتَتَحَوَّلُ إلى «نِعْمَةٍ!».

ولَمْ يَتَحَمَّلْ والِدايَ الْحَنونانِ صَوْتي، الَّذي يَتَرَدَّدُ عالِياً في أرْجاءِ الْمَنْزِلِ، بَيْنَ الْفَيْنَةِ والْفَيْنَةِ (حيناً بعد حين)، مِمّا جَعَلَ أبي يَأْخُذُني إلى طَبيبٍ مُخْتَصٍّ، فَنَصَحَهُ قائلاً:

- آسِفٌ، سَيِّدي، لا يوجَدُ دَواءٌ مُفيدٌ، يَقْضي عَلى هَذا الْمَرَضِ..

سَألَهُ أبي حائراً:

- وهَلْ أتْرُكُها فَريسَةً لَهُ؟ .. لابُدَّ مِنْ حَلٍّ!

طَأْطَأَ الطَّبيبُ رَأْسَهُ يُفَكِّرُ، ثُمَّ رَفَعَهُ قائلاً:

- اَلْحَلُّ الْوَحيدُ في نَظَري، أنْ تَنْهَضَ صَباحاً باكِراً، وتَرْكَبَ الطّائرَةَ ما بَيْنَ عِشْرينَ وثَلاثينَ دَقيقَةً. وبَعْدَ أيّامِ سَيَخْتَفي الْمَرَضُ بِالْمَرَّةِ، وتَشْعُرُ بِالرّاحَةِ، ويَعودُ إلَيْها نَشاطُها.

عَمِلَ أبِي بِنَصيحَةِ الطَّبيبِ، فَكانَ يَأْخُذُني باكِراً إلى الْمَطارِ، لِتُحَلِّقَ بي طائرَةٌ صَغيرَةٌ في الْجَوِّ.

ويَوْماً بَعْدَ يَوْمٍ، كانَ الْمَرَضُ يَخْتَفي، وصِحَّتي تَتَحَسَّنُ.كَيْفَ لا، ونَحْنُ في مَدينَةٍ، لاتَخْتَرِقُها وَسائلُ النَّقْلِ الْحَديثَةُ؟.. كُنّا نَنْبَهِرُ عِنْدَما نَتَوَجَّهُ لِلنُّزْهَةِ بِضاحِيَتِها، ونَرى دَرّاجَةً أوْ سَيّارَةً تَمُرُّ سَريعَةً، أمّا الآنَ، فَها أنا أمْتَطي طائرَةً، بَلْ أصْبَحْتُ أُحِبُّها حُباًّ جَماًّ.ألَمْ تُخَلِّصْني مِنْ مَرَضٍ لَمْ يَنْفَعْ فيهِ دَواءٌ؟

لَمْ أكْتَفِ بِحُبِّ الطّائرَةِ والطَّيَرانِ في الْجَوِّ، وإنَّما صِرْتُ أشْتَري لُعَباً تُمَثِّلُ طائراتٍ، حَتّى كَوَّنْتُ مِنْها سِرْباً. وأحْياناً أصْنَعُها مِنَ الْوَرَقِ، وأقْذِفُ بِها في الْجَوِّ، صائحَةً في صَديقاتي: حَذارِ حَذارِ أنْ تَسْقُطَ فَوْقَ رُؤوسِكُن!

فَتَراهُنَّ يُطَأْطِئْنَ رُؤوسَهُنَّ، ويَتَجَنَّبْنَها ضاحِكاتِ !

وكُنْتُ أصْعَدُ إلى السَّطْحِ ، لأتَأمَّلَ السَّماءَ والشَّمْسَ والْعَصافيرَ الْوَديعَةَ مُحَلِّقَةً، كَأنَّني أُريدُ أنْ أطيرَ بَعيداً بَعيداً. أمّا إذا كَنْتُ جالِسَةً مَعَ أفْرادِ أُسْرَتي، أتَناوَلُ وَجْبَةَ الْغِداءِ، وسَمِعْتُ أزيزَ طائرَةٍ فِي السَّماءِ، فَإنَّنِي أقْفِزُ مِنْ مَكانِي، وأصْعَدُ إلى السَّطْحِ بِخِفَّةِ رِجْلَيَّ، ولا أنْزِلُ إلاّ بَعْدَ أنْ تَخْتَفِيَ عَنْ عَيْنَيَّ، ولا يَبْقى لَها أثَرٌ في الْفَضاءِ.

وفي سِنِّ الرّابِعَةِ، أخَذَني أبي إلى الْمَدْرَسَةِ، فَاعْتَنَتْ بي مُعَلِّمَتي (مَليكَةُ بْنُ سودَةَ) عِنايَةً فائقَةً، رُبَّما فَطِنَتْ إلى ذَكائي الْحادِّ، وإلى رَغْبَتي الْقَوِيَّةِ في الدِّراسَةِ، وتَوَسَّمَتْ فِيَّ خَيْراً لِوَطَني الْعَزيزِ الَّذي كانَ مُحْتَلاًّ.

وتَشاءُ الأقدار، أنْ أكونَ أصْغَرَ مُقاوِمَةٍ للاِسْتِعْمارِ في بَلَدي؛ فَفي سَنَةِ 1944 ثارَ الشَّعْبُ الْمَغْرِبِيُّ عَلى الْمُحْتَلّينَ في كافَّةِ الْمُدُنِ، فَكَلَّفَتْني مُعَلِّمَتي، أنْ أحْضُرَ إلى الْمَدْرَسَةِ، قَبْلَ التَّلاميذِ، وأُخْبِرَهُمْ بِحالَةِ بِلادي، ثُمَّ يُقْسِموا بِالْقُرْآنِ الْكَريمِ عَلى ألاّ يَعودوا إلى الْمَدْرَسَةِ، حَتّى يَرْحَلَ الْمُسْتَعْمِرُ عَنْ الْوَطَنِ.

ولَمْ أتَرَدَّدْ في أَداءِ هَذا الدَّوْرِ الْوَطَنِيِّ النَّبيلِ، كَما أنَّني حافَظْتُ عَلى السِّرِّ، ولَمْ أبُحْ بِهِ، لا لأصْدِقائي ولا لوالِدَيَّ وإخْوَتي، كَيْلا تَفْشَلَ الْخُطَّةُ، ويُلْقى الْقَبْضُ عَلى مُعَلِّمَتي، الَّتِي كُنْتُ أُجِلُّها. ألَمْ يَقُلْ أميرُ الشُّعَراءِ أحْمَدُ شَوْقي:

«قُـمْ لِلْمُعَلِّمِ وفِّـهِ التَّـبْجيلا
كادَ الْمُعَلِّمُ أنْ يَكـونَ رَسولا
أَعَلِمْتَ أشْرَفَ أوْ أَجَلَّ مِنَ الَّذي
يَبْنـي ويُنْشِئُ أنْفُساً وعُقولا»؟

وفي الْغَدِ،فوجئت الْمُديرَةُ الْفَرَنْسِيَّةُ بِإضْرابِ التِّلْميذاتِ، ورَأَتْهُنَّ مُنْصَرِفاتٍ مِنَ الْمَدْرَسَةِ، مُتَماسِكاتِ الأيْدي، وهُنَّ يُنْشِدْنَ بِأصْواتِهِنَّ الْحَماسيَّةِ:

«مَغْرِبُنا وَطَنُنا روحي فِداهُ
ومَنْ يَدُسْ حُقوقَهُ يَذُقْ رَداهُ
دَمي لَهُ روحي لَهُ
وما مَلَكْتُ في كُلِّ آنْ»

تَساءَلَتْ مُتَعَجِّبَةً: أيُعْقَلُ أنْ تَطْمَحَ هَؤُلاءِ الصَّغيراتُ أنْفُسُهُنَّ إلى الْحُرِّيةِ؟!.. هَلْ رَضَعْنَها مَعَ حَليبِ أُمَّهاتِهِنَّ؟!.. لابُدَّ أنَّ هُناكَ مَنْ حَرَّضَتْهُنَّ عَلى «الْفَوْضى».. لَنْ يَهْدَأَ لي بالٌ حَتَّى أَعْرِفَها!

سَألَتِ الْمُعَلِّماتِ والتِّلْميذاتِ، عَنِ الَّتي تَقودُ هَذِهِ الْمَعْرَكَةَ، فَلَمْ تَتَلَقَّ جَواباً. وظَلَّتْ تُفَكِّرُ وتُفَكِّرُ، وتَسْتَحْضِرُ بَيْنَ عَيْنَيْها التِّلْميذاتِ، الْواحِدَةَ تِلْوَ الأُخْرى؛ هَذِهِ أمْ تِلْكَ؟..لا لا هَذِهِ، بَلْ تِلْكَ..حَتّى وَقَعَتْ عَلَيَّ: لَنْ تَقومَ بِهَذا الدَّوْرِ الْخَطيرِ إلاّ ثُرَيّا، الطِّفْلَةُ النَّبيهَةُ النَّشيطَةُ!

وهاتَفَتِ الْقائدَ الْعَسْكَرِيَّ لِلْمِنْطَقَةِ، فَحَضَرَ بِسُرْعَةٍ، وأخَذَ مِنْها عُنْواني، ثُمَّ أتى مَنْزِلي صُحْبَةَ اثْنَيْنِ وثَلاثينَ جُنْدِياًّ ومُتَعاوِناً، مُسَلَّحينَ بِالْبَنادِقِ والْمُسَدَّساتِ والْهِراواتِ (العصي).

وعنْدَما طَرَقوا الْبابَ، فَتَحَهُ أبِي، فَتَسَلَّلَتِ «الْعَريفَةُ» إلَى داخِلِ الْمَنْزِلِ، باحِثَةً عَنّي فِي الْغُرَفِ، فيما اعْتَرَضَ والِدي الْقائدَ والْجُنودَ، مُتَسائلاً في شَجاعَةٍ:

- ما الَّذي أتى بِكُمْ؟

- ابْنَتُكَ ثُرَيّا.. أيْنَ هِيَ؟

- ماذا تُريدونَ مِنْها؟

- لَدَيْنا أمْرٌ بِإلْقاءِ الْقَبْضِ عَلَيْها!

- وماذا فَعَلَتْ؟

- سَأُخْبِرُكَ حينَ نَجِدُها!

في ذَلِكَ الْحينِ، أخْرَجَتْني الْعَريفَةُ، وهِيَ تُمْسِكُ بِيَدي. فَتَسَمَّرَ الْقائدُ في مَكانِهِ ذاهِلاً، وتَساءَلَ مُسْتَغْرِباً:

ـ أهَذِهِ هِيَ ثُرَيّا الَّتي نَبْحَثُ عَنْها؟!

رَدَّ أبي ساخِراً:

- ومَنْ كُنْتَ تَظُنُّ، أيُّها الْقائدُ؟..إنَّ الْكِبارَ والصِّغارَ يَنْتَظِرونَ رَحيلَكُمْ عَنْ أرْضِنا الطَّيِّبَةِ !

- حَسِبْتُها شابَّةً في الْعِشْرينَ رَبيعاً!..لا عَلَيْنا، سَنَأْخُذُها مَعَنا حالاً لِنَسْتَجْوِبَها!

قالَ الْقائدُ مُتَلَعْثِماً، وسارَ بي إلى مَرْكَزِ الْمِنْطَقَةِ. وهُناكَ وَجَدْتُ عَدَداً كَثيراً مِنَ الأطْفالِ والشَّبابِ والشُّيوخِ والنِّساءِ يَسْتَنْطِقونَهُمْ تارَةً، ويَنْهالونَ عَلَيْهِمْ بِالأحْزِمَةِ الْجِلْدِيَّةِ والْعِصِيِّ تارَةً أُخْرى. غَيْرَ أنَّ ذَلِكَ لَمْ يُخِفْني، لأنَّني تَعَوَّدْتُ أنْ أرى الْمُظاهَراتِ، وأُصْغيَ إلى قِصَصِ الْبُطولَةِ والتَّضْحِيَّةِ مِنْ والِدَيَّ ومُعَلِّمَتي، وأحْضُرَ أنْشِطَةَ الْكَشّافَةِ، وأسْتَمِعَ إلى أناشيدِهِمُ الْوَطَنِيَّةِ الْحَماسِيَّةِ. لِذَلِكَ، حينَما سألَنِي الْقائدُ في عُقْرِ الْمَخْفَرِِ:

- أجيبينِي بِصَراحَةٍ: مَنْ حَرَّضَكُنَّ عَلى الإضْرابِ؟

كُنْتُ جَريئَةً في إجابَتي:

- أنا الَّتي أتَحَمَّلُ الْمَسْئولِيَّةَ كامِلَةً !

- ألَمْ يَأْمُرْكِ والِدُكِ بِذَلِكَ؟

- لاعَلاقَةَ لِوالِدي بِأنْشِطَتي.

- وألَمْ تَعِدْكِ مُعَلِّمَتُكِ بِالنُّقَطِ الْحَسَنَةِ، إذا قُمْتِ بِهَذا الْعَمَلِ؟

- قُلْتُ لَكَ إنَّني مَسْئولَةٌ عمّا حَصَلَ.

- لَقَدْ أحْضَرْنا لَكِ هَدِيَّةً ثَمينَةً، شَرْطَ أنْ تَعْتَرِفي بِالْحَقيقَةِ.

سَألْتُهُ، وشَفَتايَ تَنْفَرِجانِ عَنِ ابْتِسامَةٍ مُتَصَنِّعَةٍ:

- أحَقاًّ سَتَمْنَحُني هَدِيَّةً، وآخُذُها مَعي إلى مَنْزِلي؟!

وهُنا تَلأْلأَتْ عَيْناهُ، كَأنَّهُ سَيُحَقِّقُ شَيْئاً:

- أجَلْ، سَنَمْنَحُكِ هَدِيَّةً لَمْ تَرَيْها في حَياتِكَ، جِئْنا بِها مِنْ فَرَنْسا..هَيّا، قولي، قولي.. مَنْ حَرَّضَكُنَّ عَلى الإضْرابِ؟!

رَكَّزْتُ فيهِ عَيْنَيَّ جَيِّداً، وتَمْتَمْتُ:

- إنَّ الَّتي..إنَّ..

قاطَعَني بِعَصَبِيَّةٍ:

- مالَكِ تَتَرَدَّدينَ؟..انْطِقي..

- أقولُ لَكَ الْحَقيقَةَ: إنَّ الَّتي نادَتْ بِالإضْرابِ، هِيَ أنا، وإذا لَمْ تُصَدِّقْني، فَاسْألِ التِّلْميذاتِ، ألا تُريدُ أنْ تَقْتَنِعَ؟

ضَرَبَ كَفاًّ بِكَفٍّ قائلاً:

- أتْعَبْتِني مَعَكِ!

وصَمَتَ قَليلاً، قَبْلَ أنْ يَزيدَ مُتَسائلاً:

- لَكِنْ، كَيْفَ خَطَرَتِ الْفِكْرَةُ بِبالِكِ؟

- صَباحاً باكِراً، دَخَلْتُ الْحُجْرَةَ الدِّراسِيَّةَ لأُنْجِزَ بَعْضَ تَماريني، فَوَجَدْتُ عَلى السَّبّورَةِ الْجُمْلَةَ التّالِيَةَ مَكْتوبَةً:

-«عَلى التِّلْميذَةِ الَّتي تَدْخُلُ أولاً الْفَصْلَ أنْ تَطْلُبَ مِنَ التِّلْميذاتِ مُقاطَعَةَ الدِّراسَةِ، وألاّ يَعُدْنَ حَتّى يَسْتَقِلَّ وَطَنُنا»!

لَمْ يَجِدْ بُداًّ مِنْ إطْلاقِ سَراحي، فَاسْتَقْبَلَني والِدايَ وجيراني وصَديقاتي التِّلْميذاتُ بِالزَّغاريدِ والْهُتافاتِ، وأحْسَسْتُ آنَذاكَ أنَّني قِطْعَةٌ مِنْ هَذا الْوَطَنِ، وعَلَيَّ أنْ أسْتَمِرَّ في تَضْحِيَّتي ودِراسَتي وتَعْليمي، لا لأُقاوِمَ الْمُسْتَعْمِرَ فَقَطُّ، وإنَّما لأُحارِبَ الْجَهْلَ، الْعَدُوَّ الثّانِيَ. وكانَتْ مِنْ بَيْنِ مُسْتَقْبِلي، مُعَلِّمَتي الَّتي كَلَّفَتْني بِتَنْفيذِ خطَّةِ الإضْرابِ، فَما إنْ رَأَيْتُها قادِمَةً، حَتّى حَرَّكْتُ لَها رَأْسي، ذاتَ الْيَمينِ وذاتَ الْيَسار ثَلاثَ مَرّاتٍ، أيْ بِمَعْنى: اِطْمَئِنِّي، لا تَخْشَيْ سوءاً، لَمْ أُفْشِ السِّرَّ لأحَدٍ!

وتابَعْتُ تَعْليمي بِفَضْلِ والِدَيَّ، وفي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، دَرَسْتُ الطباعة علىالالة الكاتبة بِالْمُراسَلَةِ مَعَ مَعْهَدٍ تونُسِيٍّ. كَما أنَّ أبي أرادَ أنْ يَسْتَغِلَّ مَواهِبي، وكانَ مُؤَلِّفاً مَسْرَحِياًّ شَهيراً، فَأشْرَكَني مَعَهُ في التَّمْثيلِ، وقِراءَةِ مَوْضوعاتٍ فِي الإذاعَةِ، مِنْها «اَلْعِلْمُ والأخْلاقُ» فَكُنْتُ أوَّلَ مُذيعَةٍ وأوَّلَ مُمَثِّلَةٍ في الْمَغْرِبِ، لا عَلى خَشَبَةِ الْمَسْرَحِ فَقَطُّ، ولَكِنْ في السِّينِما أيْضاً. فَقَدْ تَقَمَّصْتُ دَوْرَ الْبُطولَةِ في الشَّريطِ الْعالَمِيِّ فيلم «الْبابُ السّابِعُ» حَيْثُ كُنْتُ أمْتَطي الْحِصانَ، وأعْبُرُ بِهِ الصَّحْراءَ والْجِبالَ الشّاهِقَةَ، وأحْيانا أُلْقي بِنَفْسي مِنْ فَوْقِهِ أمامَ آلاتِ التَّصْويرِ!

ثُمَّ رَحَلْتُ سَنَةَ 1949 إلى تونُسَ الْحَبيبَةِ، لأُكْمِلَ دِراسَةَ الرِّقانَةِ وعَمَلِيّاتِ الاِخْتِزالِ (الكتابة بالحروف المختصرة)، وعُمُري لَمْ يَتَجاوَزْ اثْنَيْ عَشَرَ عاماً!

أجَلْ، أَبْنائي، مازِلْتُ أذْكُرُ تِلْكَ السَّنَواتِ الَّتي كُنّا فيها نَنْضَجُ (قَبْلَ الأوانِ) فَنَتَحَمَّلُ الْمَسْئولِيَّةَ، ونَحْنُ صِغارٌ، لَمْ نَبْلُغْ سِنَّ الرُّشْدِ!

لَقَدْ كُنْتُ أوَّلَ فَتاةٍ مَغْرِبِيَّةٍ تَنالُ شَهادَةَ التَّعْليمِ في الرِّقانَةِ. وأهَّلَتْني هَذِهِ الشَّهادَةُ لِوَظيفَةِ كاتِبَةٍ بِوَكالَةِ الْمَغْرِبِ الْعَرَبِيِّ للأنْباءِ. فَهَلْ كُنْتُ أصْغَرَ مُوَظَّفَةٍ مَغْرِبِيَّةٍ؟..غَيْرَ أنَّ طُموحاتـي كانَتْ كَبيرَةً، لَمْ تَتَحَدَّدْ بِنَيْلِ وَظيفَةٍ أوْ شَهادَةٍ، بَلْ في تَحْقيقِ تِلْكَ الأُمْنِيَّةِ الْغالِيةِ، الَّتـي حَدَّثْتُكُمْ عَنْها في بِدايَةِ قِصَّتي، ألا وهِيَ الطَّيَرانُ. ولَكُمْ أنْ تَتَعَجَّبوا، فَما حَدَثَ لأُخْتَيَّ لَطيفَةَ النّادي وإليزابيثْ بْلاكْويلْ، لا يَخْتَلِفُ عَمّا واجَهَنِي، حينَما أرَدْتُ أنْ أَلْتَحِقَ بِمَدْرَسَةِ الطَّيَرانِ بِمَدينَةِ الدّارِ الْبَيْضاءِ، الْعاصِمَةِ الاِقْتِصادِيَّةِ لِلْمَغْرِبِ: يالَلْغَرابَةِ، ما الَّذي أتى بِهَذِهِ الطِّفْلَةِ إلى مَدْرَسَتِنا؟!.. كانَ عَلَيْها أنْ تَبْقى حَبيسَةَ بَيْتِها، تَتَعَلَّمُ الْخِياطَةَ والطَّبْخَ، والتَّدْبيرَ الْمَنْزِلِيَّ وتَرْبِيةَ الأَوْلادِ، بَدَلَ مُزاحَمَةِ الذُّكورِ!

لَمْ أُعِرْ نَميمَتَهُمْ أيَّةَ قيمَةٍ، أوْ أرُدَّ عَلى سُخْرِيَّتِهِمْ، وأفْرَغْتُ كُلَّ طاقَتي في تَعْلمِ الطَّيَرانِ والتَّدريبات الْيَوْمِيَّةِ عَلى قيادة الطّائرَةِ. ولِكَيْ أحْصُلَ عَلى شَهادَةِ الإجازَةِ في هَذا الْمَجالِ، كانَ عَلَيَّ أنْ أرْتَفِعَ عَنِ الأرْضِ ثَلاثَةَ آلافِ مِتْرٍ، وأقْطَعَ مَسافَةً دائرِيَّةً تُقَدَّرُ بِأرْبَعينَ كيلومِتْراً، وهِيَ عَمَلِيَّةٌ صَعْبَةٌ، لأنَّها تُحْدِثُ لِصاحِبِها دُواراً في الرَّأْسِ. لَكِنْ، بِالنِّسْبَةِ إلَيَّ، لَمْ تُواجِهْني صُعوبَةٌ، وأدَّيْتُها بطَريقَةٍ عَجيبَةٍ، بَلْ أوْقَفْتُ مُحَرِّكَ طائرَتي في الْجَوّ، وهَبَطْتُ بِها في الدائرَةِ الَّتي كانَتْ لَجْنَةُ الاِمْتِحانِ تَتَّخِذُها مَقَرّاً لَها. ولَمْ يَتَمالَكِ الْمُديرُ نَفْسَهُ مِنَ الإعْجابِ والاِعْتِزاز، فَحَمَلَني بَيْنَ يَدَيْهِ، وجَرى بي.. فيما بَقِيَ الطَّلَبَةُ الَّذينَ كانوا يَسْخَرونَ مِنّي في حالَةِ ذُهولٍ تامٍّ، فَـ «عِنْدَ الاِمْتِحانِ، يُعَزُّ الْمَرْءُ أوْ يُهانُ». وبِنَجاحي الْباهِرِ، كُنْتُ أصْغَرَ طَيّارَةٍ في الْعالَمِ!

وأصْبَحْتُ طَيّارَةً

 


 

العربي بنجلون





صورة غلاف هدية العدد