رَحَلْتُ.. ورَأيْتُ: اِبْنُ بَطُّوطَة في إسْتونْيا.. العربي بنجلون

رَحَلْتُ.. ورَأيْتُ: اِبْنُ بَطُّوطَة في إسْتونْيا.. العربي بنجلون

رسوم: بلال بصل

وأنا أهُمُّ بِرُكوبِ الْقِطارِ، إذا بِي أرى شَيْخاً طاعِناً في السِّنِّ، يَتَوَكَّأُ عَلى عَصاً مَعْقوفَةٍ، ويَجُرُّ بِصُعوبَةٍ حَقيبَةً ذاتَ عَجَلاتٍ، والْعَرَقُ يَقْطُرُ مِنْ جَبينِهِ.

تَخَيَّلْتُ نَفْسي مَكانَهُ؛ لَوْ كُنْتُ شَيْخاً مِثْلَهُ، كَيْفَ أتَحَمَّلُ ما لا طاقَةَ لي بِهِ؟.. إذَنْ، عَلَيَّ أنْ أُعينَهُ.

تَقَدَّمْتُ مِنْهُ، وحَيَّيْتُهُ باسِماً، فَرَدَّ التَّحِيَّةَ بِوَجْهٍ بَشوشٍ. ومَدَدْتُ يَدي إلى حَقيبَتِهِ لأَحْمِلَها عَنْهُ.

أمْطَرَنِي بِالشُّكْرِ، وطَلَبَ مِنّي أنْ أصْحَبَهُ إلى الْمَقْصورَةِ، لأنَّهُ -كَما قالَ - يُريدُ مَنْ يُؤْنِسُهُ، ولَنْ يَجِدَ خَيْراً مِنّي، فَأنا فَتًى أُحْسِنُ مُعامَلَةَ الضُّعَفاءِ والْبُسَطاءِ.

وافَقْتُهُ الرَّأْيَ، وقُلْتُ لَهُ بِسُرورِ:

-إنَّكَ بمنزلة جَدّي، الَّذي كانَ يَحْكي لِي في كُلِّ لَيْلَةٍ قَبْلَ أنْ أنامَ، رِحْلَةً مِنْ رَحَلاتِ ابْنِ بَطّوطَةَ.

لَمَعَتْ عَيْناهُ، كَأنَّهُ يُريدُ أنْ يَقولَ شَيْئاً، فَسَألْتُهُ:

-هَلْ تَعْرِفُ الرَّحّالَةَ ابْنَ بَطّوطَةَ؟..إنَّهُ مِنْ مَواليدِ 1303م بِطَنْجَةَ، الَّتي نَتَوَجَّهُ إلَيْها الآنَ..

قاطَعَنِي مُسْتَفْسِراً:

- أسَبَقَ لَكَ أنِ الْتَقَيْتَهُ أوْ رَأيْتَهُ؟

اِنْفَجَرْتُ ضاحِكاً، حَتّى كِدْتُ أسْتَلْقي عَلى قَفايَ:

- ماذا تَقولُ، سَيِّدي؟!.. لَوْ لَمْ أضْبِطْ نَفْسي لَمُتُّ مِنَ الضَّحِكِ!..ألا تَعْلَمُ أنَّ ابْنَ بَطّوطَةَ تُوُفِّيَ سَنَةَ 779 هجريةً / 1377 ميلاديةً؟!

أضافَ إلى كَلامي قائلاً:

- أعْرِفُهُ جَيِّداً، لَهُ رِحْلَةٌ طَويلَةٌ، عُنْوانُها: «تُحْفَةُ النُّظّارِ في غَرائبِ الأمْصارِ، وعَجائبِ الأسْفارِ».

سَألْتُهُ، والدَّهْشَةُ تَعْقِدُ لِسانِي:

- ولِماذا تَسْألُنِي عَنْهُ، إذا كُنْتَ تَعْرِفُهُ؟!

- حَقاًّ، بُنَيَّ، لَقَدْ رَحَلَ عَنْ عالَمِنا قَبْلَ قُرونٍ، لَكِنَّهُ عادَ لِيَزورَ بُلْداناً أُخْرى، لَمْ يَزُرْها في زَمانِهِ!

- أتَسْتَغْفِلُنِي، ياسَيِّدي؟!..كَيْفَ يَعودُ مَنْ يَنْقَضِي أجَلُهُ؟.. لَمْ أعْهَدْكَ مازِحاً لِهَذِهِ الدَّرَجَةِ!

أجابَنِي جازِماً:

-لا أُمازِحُكَ الْبَتَّةَ، وابْنُ بَطّوطَةَ هُوَ أنا، بِلَحْمِهِ وشَحْمِهِ، صَدِّقْنِي أوْ لا تُصَدِّقُنِي!

صَمَتَ قَليلاً، ثُمَّ أطْلَقَ قَهْقَهَةً، مُتَسائلاً بِسُخْرِيَّةٍ:

- وهَلْ بَقِيَ في جِسْمي لَحْمٌ أوْ شَحْمٌ؟..أنا جِلْدٌ عَلى عَظْمٍ، ياوَلَدي، لَقَدْ فَعَلَتْ فِيَّ الشَّيْخوخَةُ فِعْلَتَها، بَعْدَ أنْ أمْضَيْتُ حَياتِي كُلَّها فِي الرَّحَلاتِ والأسْفارِ، تارَةً فَوْقَ الْحِصانِ، وتارَةً عَلى مَتْنِ سَفينَةٍ، وتارَةً فَوْقَ الْحِمارِ، وهاأنَذا الْيَوْمَ فِي الْقِطارِ!

أطْرَقْتُ أُفَكِّرُ، مُرَدِّداً فِي نَفْسي: ألا يَكونُ هَذا الشَّيْخُ يُخَرِّفُ بِما لا يَعْرِفُ؟.. اَلْحَلُّ الْوَحيدُ أنْ أمْتَحِنَهُ، لأَتَأكَّدَ ما إذا كانَ ابْنَ بَطُّوطَةَ حَقيقَةً أمْ يَخْدَعُنِي؟

اِلْتَفَتُّ إلَيْهِ سائلاً:

- قُلْ لي، يا(ابْنَ بَطّوطَةَ): ماهِيَ آخِرُ بِلادٍ زُرْتَها؟

اِسْتَوى في جِلْسَتِهِ، وقالَ:

- حَزِّرْ فَزِّرْ: سَماؤها غائمَةٌ نَحْوَ نِصْفِ السَّنَةِ، ويَوْمُها أطْوَلُ فِي صَيْفِها، يَصِلُ تِسْعَ عَشْرَةَ ساعَةً، وأقْصَرُ فِي شِتائها، يَسْتَمِرُّ سِتَّ ساعاتٍ، وهِيَ عاصِمَةُ اللَّيْلِ والنَّهارِ مَعاً. هَلْ عَرَفْتَها، يا بُنَيَّ؟

- دَعْني أُفَكِّرْ.. إنْ لَمْ تَخُنِّي ذاكِرَتِي..

تَلَعْثَمْتُ في جَوابِي، فَبادَرَ يَسْتَحِثُّنِي:

- قُلْها، لا تَتْرُكْها بَيْنَ حَلْقِكَ ولِسانِكَ..

- إسْتونْيا، ألَيْسَتْ هِيَ؟

- بَلى، يا لَكَ مِنْ فَتًى نَبيهٍ!

- حَقاًّ ما قُلْتَ، إنَّ هَذِهِ الْبِلادَ لَمْ تَزُرْها، ولَمْ تَسْتَقِلَّ إلاّ عامَ 1920 ثُمَّ ضَمَّتْها روسْيا سَنَةَ 1944 فَكَيْفَ عَرَفْتَها؟

- ألَمْ أقُلْ لَكَ إنَّنِي عُدْتُ لأَزورَها أمْ نَسيتَ؟

- أجَلْ، هَيّا أطْلِعْني عَمّا شاهَدْتَهُ فيها.

أخْرَجَ مِنْ حَقيبَتِهِ سِجِلاًّ سَميكاً، وفَتَحَهُ بِثِقَةٍ، لِيُظْهِرَ لي أنَّهُ مازالَ يَحْتَفِظُ بِيَقَظَةِ عَقْلِهِ:

- اُنْظُرِ إلى الصُّوَرِ جَيِّداً، إذا لَمْ تُصَدِّقْني؛ بَيْنَ أحْضانِ هَذِهِ الطَّبيعَةِ الْخَلاّبَةِ، توجَـدُ نَباتاتٌ، وتَعيشُ ثَدْيِياتٌ مُتَنَوِّعَةٌ، قَلَّما (قليلاً ما) يَراها النّاظِرُ في دُوَلٍ أُروبِّيَّةٍ أُخْرى،تَأمَّلْ، هَذِهِ «تالينُ» عاصِمَةُ إسْتونْيا، تَقَعُ في الشَّمالِ، وتَنْفَرِدُ بِشاطِئٍ جَميلٍ، مِياهُهُ دافِئَةٌ، لا نَظيرَ لَهُ في أُروبّا كُلِّها.

ولَوْلا مَوْقِعُها المهم، وطَبيعَتُها الْخِصْبَةُ، لَما قامَتْ حُروبٌ طاحِنَةٌ عَلى أرْضِها، بَيْنَ الْعَديدِ مِنَ الدُّوَلِ، مِنْها ألْمانْيا وروسْيا؛ كُلٌّ مِنْها كانَ يُريدُ أنْ يَحْظى بِمَوْقِعِها وثَرَواتِها الطَّبيعِيَّةِ.

سَألْتُهُ وسُلْطانُ النَّوْمِ يَحْمِلُني إلى دُنْيا الأحْلامِ:

- ولَكِنْ، ياسَيِّدي، إسْتونْيا..الَّتي.. تَقولُ عَنْها.. إنَّها مِنَ الْبُلْدانِ الْحَديثَةِ.. كانَتْ.. كانَتْ مَعْروفَـةً.. مُنْذُ الْقَرْنِ.. الْقَرْنِ الثّالِثَ عَشَرَ..وأنْتَ كُنْتَ.. في هَذا الْقَرْنِ.. عَلى قَيْدِ الْحَياةِ..؟

اِنْفَرَجَتْ شَفَتاهُ عَنِ ابْتِسامَةٍ عَريضَةٍ، وهُوَ يَتَفَرَّسُنِي (يتفحصني):

- كَيْفَ أزورُها، وهِيَ كانَتْ تَشْهَدُ بَيْنَ الْفَيْنَةِ (الوقت) والأُخْرى حُروباً وفِتَناً، ولَمْ يَكُنْ فيها مُسْلِمونَ أَلوذُ بِهِمْ، مِثْلَ الْهِنْدِ والصّينِ وبُخارى والْبَنْغالِ..؟ !

أمّا إسْتونْيا، فَلَمْ يَكُنْ بِها قَديماً مُسْلِمونَ، وتَدُلُّ آثارُهَا على أنَّ الإسْتونِيِّينَ أتَوْا مِنَ الشَّرْقِ قَبْلَ ثَلاثَةِ آلافٍ وخَمْسِمائَةِ سَنَةٍ، فَضْلاً عَنْ مَجْموعاتٍ عِرْقِيَّةٍ أُخْرى، كَالْفينَنْدِيِّينَ.

الْتَفَتَ إلَيَّ، فَوَجَدَنِي أشْخِرُ شَخيراً مُزْعِجاً. ثُمَّ قالَ ساخِراً، والْبَسْمَةُ تُضيء وَجْهَهُ:

- أنا أُبِحُّ صَوْتِي، وهُوَ يَغِطُّ في نَوْمِهِ!

فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، أحْسَسْتُ بِوَصولِ الْقِطارِ إلَى طَنْجَةَ فَفَتَحْتُ عَيْنَيَّ، ونَظَرْتُ إلَى يَمينِي، حَيْثُ كانَ يَجْلِسُ (ابْنُ بَطّوطَةَ) فَلَمْ أجِدْهُ، ولا حَتّى حَقيبَتَهُ!

تَساءَلْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي باهِتاً:

-كَيْفَ انْصَرَفَ دونَ أنْ يوقِظَنِي أويُعْلِمَنِي حَتّى؟!.. ومَنْ سَيَجُرُّ حَقيبَتَهُ، ويُعينُهُ عَلى النُّزولِ غَيــــْري؟ !..يا لَلْعَجَبِ!..إنَّ أمْرَ هَذا الشَّيْخِ الْمُسِنِّ حَيَّرَنِي كَثيراً!

سَألْتُ عَنْهُ مُراقِبَ التَّذاكِرِ، فَأكَّدَ لِي أنَّهُ لَمْ يُشاهِدْ راكِباً شَيْخاً. أسْرَعْتُ بِالنُّزولِ، أبْحَثُ عَنْهُ بَيْنَ الْمُسافِرينَ، وفِي أرْكانِ الْمَحَطَّةِ، ومَوْقِفِ السَّيّاراتِ والْحافِلاتِ، فَما عَثَرْتُ لَهُ عَلى أثَرٍ!

وغادَرْتُ الْمَحَطَّةَ تَواًّ (حالاً) وأنا أتَساءَلُ: هَلْ بَلَعَتْهُ الأرْضُ أمْ كُنْتُ أحْلُمُ؟!..ولِحَدِّ السّاعَةِ،

يَا أَصْدِقائِي، لا أُصَدِّقُ ما وَقَعَ لِي بِالضَّبْطِ؟!

 


 

العربي بنجلون