صَدِيقُنَا الْجَدِيدُ.. قصة: محمد عزالدين التازي
صَدِيقُنَا الْجَدِيدُ.. قصة: محمد عزالدين التازي
رسوم: حلمي التوني الْتَقَى التَّلاَمِيذُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ السَّنَةِ الدِّرَاسِيَّة، فَعَجَّتْ (امتلأت) سَاحَةُ الْمَدْرَسَةِ بِحَرَكَاتِهِمْ وَلَهْوِهِم وَأَصْوَاتِهِمْ. كَانُوا مُشْتَاقِينَ بَعْضُهم إلى بعضٍ، يَتَحَدَّثُُونَ عَمَّا فَعَلُوهُ فِي الْعُطْلَةِ الصَّيْفِيَّة، وَيَتَسَاءَلُونَ بِفُضُولٍ عَنِ الْمُعَلِّمِ الَّذِي سَوْفَ يُدَرِّسُهُمْ فِي هَذَا الْعَام. فِي أثناءِ ذَلِكَ اللَّهْوِ وَتَبَادُلِ الأَحَاديثِ، ظَهَرَ أَمَامَ التَّلاَمِيذِ قَزَمَانِ وَهُمَا يَخْطُوَانِ عَلَى أَرْضِ سَاحَةِ الْمَدْرَسَة. تَوَقَّفُوا عَنِ اللَّهْوِ وَالْحَدِيثِ تَحْتَ وَقْعِ الْمُفَاجَأَة، وَانْشَغَلُوا بِمُرَاقَبَةِ القَزَمَيْن. كَانَا قَصِيرَيْنِ جِدًّا، أَحَدُهُمَا يَرْتَدِي بِذْلَةً رَمَادِيَّةً تَظْهَرُ مِنْ يَاقَتِهَا رَبْطَةُ عُنُقٍ حَمْرَاء، يَعْتَمِرُ قُبَّعَةً رَمَادِيَّةً أَيْضًا، فِي قَدَمَيْهِ حِذَاءٌ صَغِيرٌ لاَمِعٌ أَسْوَد، وَكَانَ مَظْهَرُهُ أَنِيقًا رَغْمَ قِصَرِ قَامَتِه. وَكَانَ الثَّانِي يَرْتَدِي لِبَاسًا مَدْرَسِيًّا أَبْيَض، وَفِي يَدِهِ حَقِيبَةٌ مَدْرَسِيَّة. أَخَذَ الْقَزَمَانِ يَسِيرَانِ فِي سَاحَةِ الْمَدْرَسَة، وَصَاحِبُ الْبِذْلَةِ الرَّمَادِيَّةِ يُمْسِكُ بِيَدِ صَاحِبِ اللِّبَاسِ الْمَدْرَسِيّ، فَعَرَفَ التَّلاَمِيذُ أَنَّهُ أَبٌ يَرْغَبُ في إِلْحَاقِ وَلَدِهِ بِالْمَدْرَسَة. دَخَلَ الْأَبُ وَوَلَدُهُ مَكْتَبَ الْمُدِير، وَوَقَفَ التلاميذُ يَتَطَلَّعُونَ إِلَى مَا يَحْدُث. قَالَ أَحَدُهُم: - تُرَى فِي أَيِّ فَصْلٍ سَيَدْرُس؟ وَقَالَ آخَر: - لَيْتَهُ يَكُونُ مَعَنَا. وَقَالَ ثَالِث: - تُرَاهُ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْرُسَ بِصُورَةٍ عَادِيَّةٍ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ القِصَر؟ وَقَالَ رَابِع: - هَلْ تُسَاعِدُهُ أَصَابِعُهُ الدَّقِيقَةُ عَلَى أَنْ يُمْسِكَ بِالقَلَمِ وَيَكْتُبَ عَلَى الدِّفْتَر؟ دَخَلَ التَّلاَمِيذُ الْفَصْلَ الدِّرَاسِيَّ، تَصْحَبُهُمْ مُعَلِّمَتُهُمْ، فَتَعَرَّفُوا عَلَيْهَا، وَبَدَأَتْ تُحَدِّثُهُمْ عَنْ أَهَمِّيَّةِ النِّظَامِ دَاخِلَ الْفَصْل، وَخِلاَلَ حَدِيثِهَا دَخَلَ مُدِيرُ الْمَدْرَسَة، وَقَدَّمَ لِلْمُعَلِّمَةِ التِّلْمِيذََ الجَدِيد، وَقَالَ لَهَا: - تِلْمِيذٌ جَدِيدٌ نَقَلَهُ وَالِدُهُ مِنْ مَدْرَسَةٍ أُخْرَى. ثَمَّ قَالَ لِلتَّلاَمِيذ: - هَذَا عَبْدُالله، زَمِيلُكُمُ الجَدِيد، رَحَّبَتْ بِهِ الْمُعَلِّمَةُ وَأَجْلَسَتْهُ فِي الصَّفِّ الأَمَامِيّ. قَالَ الْمُدِير: لَقَدِ اخْتَبَرْتُهُ في مَكْتَبِي فَوَجَدْتُ أَنَّهُ ذَكِيٌّ جِدًّا، وَمُتَفَوِّق. ثُمَّ الْتَفَتَ نَحْوَ الْمُعَلِّمَةِ وقَالَ لها: أُوصِيكِ بِهِ خَيْرًا. انْسَحَبَ الْمُدِير، وَشَرَعَتِ الْمُعَلِّمَةُ فِي مُرَاجَعَةِ دُرُوسِ العَامِ الْمَاضِي. كَانَ عَبْدُاللهِ مَُتَحَمَّسًا لِلْجَوَاب، يُقَدِّمُ إِجَابَاتٍ صَحِيحَةً، بِجُرْأَةٍ وَدُونَ تَلَعْثُم، بِلِسَانٍ فَصِيحٍ قَوِيِّ البَيَان، مِمَّا بَهَرَ التَّلاَمِيذ. أَخْرَجَ عبدُاللهِ دِفْتَرَهُ وَكَتَبَ مَا كَانَتْ تُمْلِيهِ الْمُعَلِّمَةُ بِخَطٍّ دَقِيقٍ فَائِقِ الْجَمَال، مِنْ غَيْرِ أَخْطَاء. لَمْ يَكُنْ بَطِيئًا في الكِتَابَةِ وَلاَ مُتَسَرِّعًا، وَهُوَ يَضْبِطُ النُّقَطَ عَلَى الحُروف. نَظَرَ التلاميذُ الَّذِينَ يَجْلِسُونَ بِجِوَارِهِ إلى كِتَابَتِهِ فَأُعْجِبُوا بِهَا أَيَّمَا إِعْجَاب. بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْتِ الدَّرْس، اِنْصَرَفَ التلاميذُ إِلَى السَّاحَة، وَخَرَجَ مَعَهُمْ عَبْدُاللهِ وَهُوَ يَخْطُو بِقَدَمَيْهِ الدَّقِيقَتَيْن، فَتَجَمَّعُوا حَوْلَهُ وَأَخَذُوا يَسْأَلُونَهُ بِفُضُول: - أَيْنَ كُنْتَ تَدْرُس؟ - أَيْنَ تَسْكُن؟ - هَلْ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي رَافَقَكَ هُوَ أَبُوك؟ - هَلْ لَكَ إِخْوَة؟ - لِمَاذَا انْتَقَلْتَ مِنْ مَدْرَسَةٍ أُخْرَى إِلَى مَدْرَسَتِنَا؟ لَمْ يَضِقْ عَبْدُاللهِ بِأَسْئِلَتِهِم، فَرَدَّ عَلَيْهَا مُبْتَسِمًا، وَبَدَأَتِ الْاُلْفَةُ تَنْشَأُ بَيْنَهُ وبَيْنَهُم. مَضَتِ الأَيَّام، وَعَبْدُاللهِ يُبَرْهِنُ عَنْ تَفَوُّقٍ كَبِيرٍ فِي دِرَاسَتِه، فَقَدْ كَانَ يَحُلُّ الْمَسَائِلَ الحِسَابِيَةَ بِسُرْعَةٍ كَبِيرَة، كَمَا كَانَ يَقْرَأُ الأَشْعَارَ بِصَوْتٍ رَخِيم (رقيق)، وَكَانَ يَبْرَعُ في رَسْمِ الْخَرَائِط، وبَدَا مُؤَدَّبًا قَوِيمَ السُّلُوك، عَالِيَ الأَخْلاَق، فَأُعْجِبَتْ به مُعَلِّمَتُهُ وَحَبَتْهُ (خصته) بِعَطْفِهَا ورِعَايَتِهَا. تَوَطَّدَتِ الصَّدَاقَةِ والْمَوَدَّةِ بَيْنَ عَبْدِالله وَالتَّلاَمِيذ، فَأَخَذُوا يَتَحَدَّثُونَ فِي وَقْتِ الاِسْتِرَاحَة. أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمِ أَحَدٍ يَذْهَبُ إِلَى دَارِ الشَّبَابِ، حَيْثُ تُوجَدُ مَكْتَبََةٌ يَسْتَعِيرُ مِنْهَا الكُتُب، وَيُطَالِعُ بَعْضَهَا هُنَاك. كَمَا أَنَّ دَارَ الشَّبَابِ تُقَدِّمُ العُرُوضَ الْمَسْرَحِيَّةَ بَيْنَ حِينٍ وَآخَر، وَبِهَا قَاعَةٌ لِلإِعْلاَمِيَّات، حَيْثُ يُمْكِنُ التَّدَرُّبُ على اسْتِخْدَامِ الحَاسُوب. أُعْجِبَ أَصْدِقَاءُ عَبْدِاللهِ بِمَا وَصَفَهُ لَهُمْ مِنْ تَثْقِيفٍ وَتَرْفِيهٍ. تَوَاعَدَ مَعَهُمْ على اللِّقَاءِ في دَارِ الشَّبَابِ فِي صَبَاحِ يَوْمِ الأَحَدِ الْمُقْبِل، وَطَلَبَ مِنْهُمْ أن يصحب كلُّ واحدٍ منهم بِطَاقَتَهُ الْمَدْرَسِيَّةَ وَصُورَةً شَخْصِيَّةً وَرُسُومَ التَّسْجِيل. وَلَمَّا جَاءَ يَوْمُ الأَحَدِ الْتَقَوْا عِنْدَ الْمَدْخَلِ فَصَاحَبَهُمْ عبدُاللهِ إِلَى مَكْتَبِ التَّسْجِيل، وَهُنَاكَ حَصَلُوا عَلَى بِطَاقَاتِ الْعُضْوِيَّة، ثُمَّ انْطَلَقُوا يشاهدون أَرْجَاءَ الدَّارِ، يَتَعَرَّفُونَ عَلَى مَرَافِقِهَا، مِنْ مَكْتَبَةٍ وَقَاعَةٍ لِلْمُطَالَعَةِ وَقَاعَةٍ لِلْمَسْرَحِ وَأُخْرَى لِلرَّسْم وَأُخْرَى لِلْإِعْلاَمِيَّات، فَأُعْجِبُوا بِنَمَطِهَا الْمِعْمَارِيِّ الأَنْدَلُسِيِّ الأَصِيل، وبِالحَدِيقَةِ الَّتِي تَتَوَسَّطُهَا نَافُورَةٌ يَنْبُعُ مِنْهَا الْمَاء. لاَحَظَ أَصْدِقَاءُ عَبْداللهِ أَنَّهُ مَعْرُوفٌ لَدَى الرُّوَّاد، يُحَيُّونَهُ بِأَدَبٍ وَاحْتِرَام. تَوَزَّعُوا عَلَى قَاعَةِ الْمُطَالَعَةِ وَقَاعَةِ الإِعْلاَمِيَّاتِ وَقَاعَةِ الرَّسْم. وَحَالَ خُرُوجِهِمْ دَعَاهُمْ عَبْدُاللهِ إِلَى مَشْرَبٍ تُبَاعُ فِيهِ الْمَشْرُوبَات، فَتَنَاوَلُوا مِنْهَا، وَدَفَعَ عَبْدُاللهِ الثَّمَن، مُعْرِبًا عَنْ كَرَمِهِ وَسَعَادَتِهِ بِأَصْدِقَائِه، فَزَادَتْ مَحَبَّتُهُمْ لَه. خِلاَلَ مُغَادَرَتِهِم، قَرَأُوا فِي لَوْحَةِ الإِعْلاَنَاتِ إِعْلاَنًا نَشَرَتْهُ فِرْقَةٌ مَسْرَحِيَّةٌ تَرْغَبُ فِي أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهَا مِنَ التَّلاَمِِيذِ مَنْ يَهْوَوْنَ التَّمْثِيل. بَدَا عَبْدُاللهِ مُتَحَمِّسًا. حَمَّسَ أَصْدِقَاءَهُ لِأَنْ يَنْضَمُّوا إِلَيْهَا. عَادُوا إِلَى مَكْتَبِ التَّسْجِيلِ فَسَجَّلُوا أَسْمَاءَهُم. خِلاَلَ طَرِيقِ الْعَوْدَةِ إِلَى بُيُوتِهِم، أَخَذُوا يَتَنَدَّرُونَ فِيمَا بَيْنَهُم: - مَا الدَّوْرُ الَّذِي سَوْفَ تُمَثِّلُهُ أَنْت؟ - ومَا الدَّوْرُ الَّذِي سَوْفَ تُمَثِّلُهُ أَنْت؟ تَخَيَّلُوا أَنْفُسَهُمْ فَوْقَ خَشَبةِ الْمَسْرَح، يُمَثِّلُونَ دَوْرَ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ وَالطَّيِّبِ وَالْمُحْتَالِ وَالْمُخْلِصِ وَالْخَائِنِ وَالصَّانِعِ وَالتَّاجِرِ وَالْفَلاَّح. تَمَنَّوْا أَنْ تَقْبَلَهُمُ الْفِرْقَةُ لِيَتَدَرَّبُوا عَلَى الْأَدْوَارِ الَّتِي سَوْفَ تُسند إليهم. َوهَكَذَا، أَصْبَحُوا مِنْ رُوَّادِ دَارِ الشَّبَاب، بِفَضْلِ صَدِيقِهِمْ عَبْدُالله، يَقْضُونَ فِيهَا وَقْتًا طَيِّبًا يَنَالُونَ فِيهِ الْمُتْعَةَ وَالْفَائِدَة. مَضَى العَامُ الدِّرَاسِيُّ وَهُمْ يَتَنَافَسُونَ لِلْحُصُولِ عَلَى أَحْسَنِ النَّتَائِج. ولَمَّا جَاءَتْ عُطْلَةُ الصَّيْفِ، اِسْتَمَرُّوا فِي اللِّقَاءِ مَعَ صَدِيقِهِمْ عَبْدُاللهِ فِي دَارِ الشَّبَاب، يُنَمُّونَ مَوَاهِبَهُمُ الْفَنِّيَّة، ويُثَقِّفُونَ أَنْفُسَهُم. أثناء كُلِّ ذَلِك، نَسِيَ التَّلاَميذُ أَنَّ صَدِيقَهُمْ عَبْداللهِ قَزَم، لِمَا مَنَحَهُ اللهُ مِن ذَكَاءٍ وَمَحَبَّةٍ لِلآخَرِين، فَبَادَلُوهُ حُبًّا بِحُبّ.
|