البحرُ الكريمُ

البحرُ الكريمُ
        

رسم: رانيا أبو المعاطي

          أشرقَ صباحُ يومٍ جديدٍ، بدا البحرُ بمياهِهِ الزرقاءِ التي تمتدُ في الآفاقِ لا يحدّها بصرٌ، يقذفُ بعض أمواجه على الشاطئ الرملي الذهبي، فتصيرُ شفافةً تظهر من تحتِها الرمالُ بوضوحٍ، وتعود للبحرِ فيقذفها من جديدٍ، كان صوتُ الأمواجِ التي يحرّكها الهواء جميلاً وهي تذهبُ وتجيء بلا مللٍ.

          وبعد مضي وقت، اقتربَ رجلٌ، وكان يعملُ تاجراً، وقف بقربِ البحرِ، وسرعان ما خطر له إقامة مشروع جديد، فقال مفكراً «سأبدأُ بشراءِ عدد من الزوارقِ، وأنشئ مرسى صغيراً هنا، وأقوم بتأجيرِها للروادِ، هذه المنطقةُ جميلةٌ هادئةٌ ليست بها صخورٌ، وليست عميقةً»، وأخرج آلتَه الحاسبةَ وبدأ في تنفيذِ فكرتَه على الورقِ، وذهب سعيداً يحلم بتحقيق حلمَه، وبعد قليل، جاء شخصٌ آخر كانت هوايتُه كتابةَ الشعرِ، جلس بقربِ البحرِ يتأملُ فيه طويلاً، تنفس هواءَه الباردَ المنعشَ ملء رئتيه، وقال منشداً قصيدةً عن البحرِ «للبحرِ أنظر، ومياهه الزرقاءُ دافئةٌ تداعبُ الرملَ وقدمي وتعود لتداعبَ رمالاً أخرى، وأقداماً أخرى، توحدنا أمواجه ولا ندري».

          وذهب سعيداً بقصيدتِهِ الجديدةِ التي ألهمه إياها البحرُ الكبيرُ ليدوّنها في كراسةِ الشعرِ، وجاء بعد فترة رجلٌ آخرٌ كان يعمل مخرجَ أفلام وقف ينظرُ بتمعنٍ (المبالغة في الاستقصاء) ويتلفت هنا وهناك، وقال لنفسِهِ هنا سيكون مقر المشهد الذي احترتُ في تصويرِهِ، ستأتي البطلةُ مقيدةً مع خاطفيها تكتب على الرملِ بقدمِها عبارة «أنقذوني» فيأتي البطلُ ويقرأها ويبدأ في عمليةِ البحثِ عنها وإنقاذها ويخلّصها من الخاطفين، آه كم سيكون مشهداً رائعاً، وذهب وهو يطرقعُ بإصبعِهِ في الهواءِ، وجاءَ بعدَه آخر مهتم بعلمِ التاريخِ، أخرج خريطةً من حقيبتِهِ ونظر إليها بتمعنٍ وجال بنظرِهِ هنا وهناك، ثم حمل منظاراً ووضعه على عينيهِ لعله يرى الشاطئَ المقابلَ، وفكر «لقد سردت كتب التاريخِ القديمةِ، أنه قبل مئات السنين من الجانبِ الآخرِ من البحرِ، تحرّكت أفواجُ المهاجرين في منتصفِ الليلِ هاربين من بأسِ السلطانِ الظالمِ، ووصلوا إلى هذا الشاطئِ في مراكبٍ صغيرةٍ ليبحثوا عن الأمانِ والرعايةِ في ظلِّ سلطانٍ عادلٍ كان يحكمُ هنا...».

          ثم جاء رجلٌ عجوزٌ كان يعملُ في الماضي البعيدِ صائدَ لآلئ، فوقف وهو يتكئُ بيدِهِ اليمنى على عصاتِهِ، بينما يدُه الأخرى كانت تمسكُ بساعدِ حفيدِهِ الشاب اليافع، ومضى الرجلُ العجوزُ يحكي له في أسى، وهو يستعيد ذكرياتَه، ورفع مشيراً بعصاه إلى مكانٍ بعيدٍ في الشاطئ:  «في شبابي كنت أجيءُ إلى هناك مع عددٍ من الأصدقاءِ من شبابِ القريةِ وبعدها تحملنا المراكبُ الخشبيةُ الكبيرةُ إلى منتصفِ البحرِ، نكون متفائلين سعداء نأخذُ في ترديدِ الأغاني الجميلةِ للبحرِ واللؤلؤِ والشجاعةِ والصبرِ، وبعدها نبدأُ في الهبوطِ في ماء البحرِ بعد أن نغلقَ أنوفَنا وننزل دون خوفٍ، نعود إلى أهالينا ونحن نحملُ اللآلئ الجميلةَ فيستقبلوننا بالزغاريدِ والتهاني، ويباركون شجاعتَنا، وبعدها نبيعُ اللؤلؤَ للتجارِ ليكون زينةً للنساءِ، ونشتري بالنقودِ مؤونةً تكفينا لفترةٍ طويلةٍ، كما كان البحرُ كريماً معنا تعلّمنا منه الكثير، لم يكن يلقي اللآلئ في الشاطئِ لنحملَها بسهولةٍ ونمضي، بل وضعها لنا في أعماقِهِ البعيدةِ حتى يعلّمنا العملَ والصبرَ والتحمّلَ لنحصلَ على ما نريده، يا بني تحتاج إلى جدٍّ ومثابرةٍ وعملٍ كثيرٍ لكي ننجحَ فيها»، ومضى ذاهباً متكئاً على عصاه يبتسم لذكرياتِ ماضيه التي لا ينضب معينُها» (المعين: الماء الجاري).

          وجاء بعده صيادٌ وقام بفكِ رباط مركبته الخشبيةِ الصغيرةِ، ومضى يجذفُ بمجذافيهِ إلى منتصفِ البحرِ، بعدها ألقى شبكتَه وجلس ينتظرُ في صبرٍ جميلٍ، فجادت له الشبكةُ بالكثيرِ من الأسماكِ من مختلفِ الأنواعِ والأحجامِ، شعر بسعادةٍ لصيدِ اليومِ الغزيرِ، وذهب لبيعِهِ في السوقِ وهو مبتسمُ المُحيا.

          ثم أتت أسرةٌ مكونةٌ من أبٍّ وأمٍّ ومعهما أطفالهما الصغار، أحالوا هدوء المكانِ إلى صخبٍ لذيذٍ، ترددت ضحكاتُ الأطفالِ يحملها الصدى بعيداً كانوا يرتدون ثيابَ البحرِ، فسبحوا قليلاً، ثم جلسوا على الرمالِ الذهبيةِ، وبدأوا في بناءِ قصورٍ رمليةٍ، ويحفرون حفراً صغيرةً على الرمالِ، فيصعد الماءَ من داخِلها وتمتلئُ في ثوانٍ، ثم تناولوا وجبةَ طعامهم وبعدها أخذوا يلتقطون الصورَ التذكاريةَ لبعضهم البعض، ثم جمعوا أشياءَهم في حقائبهم وجمعوا ما تبقى من بقايا سندوتشات وفواكه ومغلفات ليتركوا الشاطئ نظيفاً، كما وجدوه وذهبوا سعداء، وقد وعدهم والدهم بأن يأتي بهم ثانيةً.

          بينما كان على البعدِ فنانٌ يهتمُ برسمِ المناظرِ الطبيعيةِ، وضع مقعدَه ثم وضع اللوحةَ أمامه، وبدأ في رسمِ البحرِ، كان الوقتُ غروباً منذراً بانتهاءِ اليوم، والشمسُ تهبطُ ببطءٍ على المياهِ الزرقاءِ التي تحضنها بهدوءٍ فيصيرُ لون البحرِ القريبِ من أشعتِها بنفسجياً رائعاً، ستكون لوحةً رائعةً أخذ يفكر الفنانَ..

          بينا ظلَّ البحرُ الأزرقُ يضربَ بموجِهِ على الشاطئِ ويبتسمُ، وقال بسعادةٍ باستطاعتي أن أعطي أي إنسانٍ فكرةً جميلةً، باستطاعتي منح الإنسانِ ما يطلبه، بمساحتي الكبيرةِ ومياهي الكثيرة أحتضن الأرضَ وما عليها من بشرٍ بحنوٍ وحبٍ.

 


 

شذى مصطفى