أين هلال رمضان؟

أين هلال رمضان؟
        

رسوم: وصفي الفضلي

          كان أهلُ القريةِ ينتظرون غروبَ الشمسِ بشغفٍ كبيرٍ، لأن يومهم يصادفُ التاسع والعشرين من شهر شعبان، وهو الموعدُ الذي يصعدون فيه إلى قمةِ الجبلِ الغربيّ القريب من قريتِهم، فينظرون فيه إلى السماءِ علّهم يشاهدونَ منه هلال الشهرِ الكريمِ (رمضان).

          ربما يشاهدونه اليوم عند غروبِ الشمسِ، وربما لا يرونه، تجاوز الوقتَ العصرَ، وها هم يتحرّكون صغاراً وكباراً من سفحِ الجبلِ صاعدين إلى أعلاه، ووصلوا أخيراً إلى قمةِ الجبلِ، وعلى القمةِ تمددت هضبةٌ واسعةٌ فحضنتْ كلَّ من وصلَ إلى أعلى الجبلِ.

          تحلق الجميعُ ينظرون باتجاهِ الغربِ، وبدأ قرصُ الشمسِ يفقدُ أشعته الذهبيةِ، ويتحول إلى دائرةٍ حمراءٍ كأنها رغيفٌ قد خرج لتوّه من التنور.

          وبدأ القرصُ الأحمرُ يغوصُ في الأفقِ البعيِد، حتى ودّع أعين الناظرينَ وغاب، ولسان حاله يقول لهم: انتظروني صباحاً من جهةِ المشرقِ أيها الأصحاب.

          ودارت الأعينُ محدّقةً في السماءِ باحثةً عن هلالِ رمضانِ، فالقلوبُ ستفرحُ لو رأته العيون، وربما لقدومِهِ سوف ترقصُ الأبدانُ.

          كان بين الصاعدينَ إلى الجبلِ رجلٌ عجوزٌ كبِر سنّه، وابيضَ شعرُه، وضعُفَ بصرُه، وتقوّس ظهره، وفجأةً صاحَ من بين كلّ الحاضرين قائلاً: رأيتُ الهلالَ.. رأيتُ الهلالَ.

          نظرَ الناسُ إلى الجهةِ الجنوبيةِ التي يشير إليها وتعجّبوا، فالهلال عادةً يُرى في الغربِ ولا يظهرُ لأحدٍ في الجنوبِ، لكنّهم في الوقتِ نفسه لم يعهدوا هذا الرجلَ كاذباً في أقوالِهِ، فهو عندهم معروفٌ باستقامتِه وصلاحه، وأدبه!

          تقدّم من الرجلِ العجوزِ طفلٌ ذكيٌّ سريعُ البديهةِ، حادُّ البصرِ، وأمعنَ النظرَ في وجهه الذي تحكي تجاعيدُه الكثيرةُ حكاياتِ تاريخٍ طويلٍ، فلاحظَ ملاحظةً قد تحُلُّ لغزَ الهلالِ المزعومِ الذي لا يراه من الناسِ غيرُه، كانت شعرةٌ بيضاءُ متقوسةٌ تتدلى من أسفلِ حاجبهِ الكثيفِ الذي يغطي عينيه الصغيرتين، وفهمَ الطفلُ الذكيُّ قصةَ الهلالَ الموهوم الذي كان العجوزُ يقول للناسِ إنه يراه، فهو لم يكن سوى تلك الشعرةِ البيضاءِ المتدليةِ من حاجبِه على عينِه.

          ركضَ الطفلُ إلى حفرةٍ صخريةٍ قد تجمّع فيها الماءُ، وغمسَ فيها منديله الصغيرِ، ثم عادَ مسرعاً إلى العجوزِ، فحيّاهُ، بأدبٍ كبيرٍ، وقال له: ألا تُعيدُ إلى نفسِك يا سيدي النشاطَ والقوةَ، فتمسح بهذا المنديلِ المبللِ وجهَك؟

          تناول العجوزُ المنديلَ من الطفلِ ومسحَ به وجهه المغبَر، وشكره على معروفِهِ اللطيفِ، وقال الطفلُ للعجوزِ: هل لك يا سيدي أن تدلّني على الهلالِ الذي رأيتَه في السماء حتى أراه، بدأ العجوزُ يبحثُ عن الهلالِ، لكنه هذه المرة لا يراه، وأعاد النظرَ مراراً وتكراراً، ثم قال: يا عجباً، إنني لم أعد أرى الهلال، أين اختفى الهلالُ؟

          تعجّب الناسُ من ذكاءِ هذا الطفلِ الذي حلَّ لغزَ العجوزِ، فالهلال غيرُ موجودٍ في السماءِ، ويومُ الغد هو الثلاثون من شهر شعبان، ولن يصوم الناسُ بسبب شعرةِ العجوزِ في حاجبِهِ الأبيضِ، فشعرةُ الحاجبِ هي غيرُ هلال رمضان.

 

 


 

محمود أبو الهدى الحسيني