اليومُ الأولُ في المدرسةِ

اليومُ الأولُ في المدرسةِ

رسوم: جيهان بدراوي

- استيقظتُ من نومي على أصواتٍ كثيرةٍ: أشياء تسقطُ، أصوات أقدامٍ، صوت التلفازِ يذيعُ تمارينَ الصباحِ الرياضيةِ.

تركتُ فراشي، لا فائدةَ، لن أستطيعَ النوم، فاليوم هو اليوم الأول في المدرسةِ، ولدي «مهند» يستعد للخروجِ.

- رأيت «مهنداً» يجري وأمّه تمسك به، كان يدقُّ الأرضَ بقدميهِ، يعلن بصوتِهِ العالي: لا أريد الذهابَ إلى المدرسةِ.

تذكرت يومي الأول في المدرسةِ أنا الأستاذ ضياء الدين المحامي.

- «كانت أمي تناديني، استيقظ يا ضياء، ضياءءءءءء، لم أردْ، جاءت إلى فراشي، أخذت تهزّني، قالت لي: هذا ميعاد المدرسةِ، هل تحب أن تتأخرَ في أول يومٍ؟ قلت لها: أنا لا حب أن أذهب أبداً.

- اضطرت أمي إلى حملي، وضعتني في الحمامِ أمام الصنبورِ، لم أحرّك يداً أو قدماً، قامت هي بغسلِ وجهي ويدي وشعري، ثم حملتني مرة أخرى إلى حجرتي، بدأت تلبسني ملابسَ المدرسةِ، قالت لي: ستكون أجمل طفل في المدرسةِ، لم أردْ.

- أغلقت أمي الأزرارَ، رفعتُ يدي، وضعتها في كمِّ القميصِ، وأنا واقفٌ كالتمثالِ، وعندما قامت بتسويةِ شعري أعدته بيدي إلى وضعه القديمِ، قالت أمي: تريد شعرك للأمام؟ فعلاً.. ذلك أفضل.. وألبستني الجورب، ثم الحذاءَ، كان الحذاءُ جديداً يلمعُ، نظرت في المرآةِ، فرأيت نفسي أنيقاً لكني لم أتكلم أو أبتسم.

- أخذتني أمي إلى حجرةِ الطعامِ، وضعت أمامي بعضَ الطعامِ، وكوبَ اللبنِ، وذهبت إلى حجرتِها لترتدي ملابسَها، حين عادت وجدت الطعامَ كما هو، قالت: لماذا لم تأكلْ؟ قلت: لست جوعان. قالت: فلتشربَ كوبَ اللبنِ لأجل خاطري، شربت اللبنَ. سكبتُ بعضَه على ملابسي، جرت سريعاً إلى المطبخِ، أحضرت فوطةً، ونظفت ملابسي، وضعت أمي الحقيبةَ خلفَ ظهري، لم تكن الحقيبةُ ثقيلةً،. ولكني رفضت حملَها، قالت: سأحملها أنا، وأخذتني إلى المدرسةِ.

- في المدرسةِ، ، دخلت مبنى الصغارِ، وجدت لوحات على الحائطِ وبالونات، كل المعلمات يبتسمن، صوت الموسيقى يرتفعُ بأغاني أطفالٍ أحبها، ولكني لا أريد تركَ أمي، أنا لا أعرف هذه المدرسةِ، لا أعرف هؤلاء المعلمات، أريد العودةَ للمنزلِ.

- حاولت المعلمةُ أن تأخذَني، تمسكت بثيابِ أمي، قلت لها: لا تتركيني هنا، أريد العودةَ للمنزلِ، قبّلتني أمي، أعطت المعلمةَ حقيبتي، وانصرفت.

- تلفّت حولي، رأيتُ كل الأطفالِ يبكون، أخذتني المعلمةُ بحنانٍ إلى داخلِ الفصلِ، قالت لي: اختر المكانَ الذي تريده، جلست إلى مائدةٍ صغيرةٍ، بها مربعاتٌ حمراءٌ وزرقاءٌ، وحولي أربعةُ أطفال يبكون ثم ينامون من التعبِ، ثم يستيقظون فيعاودون البكاءَ من جديدٍ.

كان الطفلُ الذي بجواري يبكي بكاءً شديداً حتى انتفخت عيناهُ، ضحكت فقد كان شكلُهُ مضحكاً.

- قالت المعلمةُ: مَن يريد مشاهدة الأراجوز؟ ذهبتُ معها إلى الفناءِ، كان الأراجوزُ لطيفاً وأعطاني هديةً.

- بدأت أغني مع الموسيقى، ثم قلت: أنا جوعان. أعطتني المعلمةُ حقيبتي، وجدتُ فيها الطعامَ الذي أحبّه، شكراً يا أمي أن تركت لي طعاماً.

- عدت إلى الفصلِ، وجلستُ في مكاني، الطفل الذي بجواري مازال يبكي، حاولت المعلمةُ أن تهدئه، رفض كل المحاولاتَ، خلع نظارتَه الطبيةَ، مسح عينيه، ثم لبسَها من جديدٍ، وعاود البكاءَ، تردّدت قليلاً، ثم وضعت يدي على يدِهِ، ربت على كتفِهِ. فتوقف عن البكاءِ فجأةً، سألته عن اسمِهِ، قال: «محمد». قلت له: أنا ضياء الدين، نظر إلي طويلاً فقلت له: سأكون معك يا «محمد» كل يوم، قال لي: لن تتركَني مثل أمي، وكان صوتُ نحيبه يتقطّعَ أثناء الحديثِ حتى هدأ تماماً عندما قلت له: لا. لن أتركك أبداً.

- في اليوم التالي، استيقظتُ، ذهبتُ إلى حجرةِ أمي، هززتها كي تستيقظَ، قلت لها: أريد أن أذهبَ إلى المدرسةِ، فرحت أمي وقالت: مازال الوقتُ مبكراً، لماذا تريد الذهاب اليوم، قلت أمس إنك لا تحب المدرسةَ، قلت لها: «محمد» هناك، إنه يحتاجُ إليَّ، وأنا وعدته أن أذهبَ إلى المدرسةِ كلَّ يومٍ».

- أفقتُ على صوت ولدي «مهند»، وهو يبكي، كان كلُّ شيءٍ في هذا اليومِ يذكّرني بيومي الأول بالمدرسةِ، وبصديقي «محمد» الذي بدأت صداقتي به منذ اليومِ الأولِ في المدرسةِ، وكانت صداقتنا هي الدافع لي للذهابِ إلى المدرسةِ في ذلك الوقتِ، فقلت لمهند: لا تبك.. ستقابل «محمداً» في المدرسةِ. نظر إلي وقال: ما شكل «محمد»؟ قلت: في نفسِ طولك، أسمر اللونِ، يلبسُ نظارةً، سيكون صديقك الجديد، وافق «مهند» على الفورِ أن يذهبَ إلى المدرسةِ (هو مثل أبيه يقدّسُ الصداقةَ منذ الصغرِ، ويدركُ أهميتها في حياتنا).

- وصلنا إلى المدرسةِ، بمجرد دخول «مهند» إلى الفصلِ، بدأ يسأل عن «محمد»، يبحث عنه، يتطلعُ إلى العيونِ، جلس ينتظرُ وقد نفد صبرُه، ونسيتُ أني وصفتَ له «محمداً» القديم، صديقي أنا.

- ظل «مهند» يبحثُ بين الوجوهِ حتى دخل الفصلَ طفلٌ صغيرٌ، أسمر اللونِ، يلبسُ نظارةً، عندئذٍ أفلت «مهند» من يدي، جرى إلى الطفلِ وهو يقول لي: «يمكنك الذهاب الآن يا أبي.. جاء «محمد». انصرفت سعيداً فقد وجد «مهند» محمداً آخر، أو أياً كان اسمُ ذلك الطفلِ، المهم أن هذا الطفل قد جعله يحبُّ الذهابَ إلى المدرسةِ.

 

 


 

إيمان سند